شرح حديث: (إن الحلال بين وإن الحرام بين)

وورد حديثٌ للنعمان بن بشير في الصحيحين، وله روايات كثيرة مضمونها ما في هذه الرواية، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس).

فقوله صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرم بين) أي: في كتاب الله عز وجل بيان ما أباحه الله سبحانه وتعالى وما أحله لعباده، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم بيان ذلك، فمن تتبع الكتاب والسنة عرف الحلال وعرف الحرام.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (وبينهما -بين الحلال والحرام- مشتبهات)، أي: أمورٌ تشتبه على الكثير من الناس، فلو ردوا الأمر لأهل العلم وأهل التقوى عرفوا أن هذه المشتبهة من باب الحلال أو من باب الحرام.

فإذا اشتبه على الإنسان شيء من الأحكام رجع لسؤال أهل العلم في ذلك، فإذا اشتبه على أهل العلم في ذلك وقالوا: شبهة، فيجب اجتناب هذا الشيء الذي فيه شبهة، وقوله: (لا يعلمهن كثير من الناس) يعني: الذي يعلم ذلك القليل وليس الكثير.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات) يعني: الحكم الشرعي فيما إذا وجدنا شيئاً يشكل علينا ويشتبه علينا فلم نعرف له حكماً أن نبتعد عنه، فلو تهاون الإنسان في هذا الشيء الذي يحتمل أن يكون حراماً قد يجره لأن يقع في الحرام المحض.

فقال: (فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه)، (استبرأ): السين للطلب والاستدعاء بمعنى: أنه استدعى البراءة وطلبها للدين وللعرض، فلا يقدح في دينه، ولا يقدح في عرضه، فلا يقال: فلان هذا يفعل الحرام، أو يأكل الحرام، فيبرئ دينه بينه وبين ربه سبحانه وعرضه أمام الناس.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) المعنى: أنه شيء يجر إلى الحرام، مثلما ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده، ويسرق البيضة فتقطع يده)، مع أن البيضة ليس إقامة الحد ولكن تجر إلى غيرها، فإذا مد يده وأخذ بيضة فإنه في المرة الثانية يمد يده ويأخذ شيئاً له قيمة، ثمَّ المرة التي بعدها يأخذ ربع دينار فتقطع يده بسبب ذلك.

فالمشتبه يجر إلى الحرام، والحرام يجر بعضه إلى بعض حتى يعيش الإنسان من الحرام ويستمرئه، وينسى أمر الحلال، فقال صلى الله عليه وسلم لنا: (من وقع في الشبهات وقع في الحرام) وضرب لنا مثلاً جميلاً صلوات الله وسلامه عليه فقال: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه).

الحمى: المكان الذي يحميه الحاكم، فهذا خاص بخيول الدولة، وهذا خاص بخيول المسلمين، وهذا خاص بإبل الصدقة، وهذا خاص بأغنام الزكاة، فهذه المحمية مكان محرم ممنوع، فإذا استخف الراعي بالأمر وأخذ الغنم وقال: هذا الحمى حمى السلطان، سأذهب أرعى بجواره، فتدخل غنمة حمى السلطان، ويأمر السلطان بمصادرتها، ويأمر بمعاقبة هذا الإنسان، ولا يقدر أن يدفع الضر عن نفسه.

فالراعي حين يرعى حول الحمى فإنه قد يدخل فيه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يَرتع فيه)، فإذا دخل حمى السلطان فإنه قد يؤخذ ويعاقب، كذلك إذا وقع في حمى الله سبحانه وتعالى.

فكلمة: (حمى) معناها الشيء الممنوع، والمكان المحمي مصان من وجود أي إنسان فيه، والإنسان الذي يحوم حول الشبهات، ظناً منه أنها ليست حراماً، يقع فيها ويستهين بها، حتى تجره إلى الحرام فيقع فيه وهو يعلم أنه حرام.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، فإذا كانت ملوك الأرض يجعل الواحد منهم له محمية فالله سبحانه وتعالى ملك الملوك له حمىً، وحمى الله محارمه، فهو سبحانه حرم عليكم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فالذي يحوم حول الفواحش، ويستهين بها، تجره إلى الحرام فيقع فيه، كأن يذهب إنسان إلى مكان فيه فتنة معللاً ذلك أنه محصن بالإيمان، فيستهين بهذه الفتنة وتجره إلى الحرام، ففي البداية يكون مشتبهاً عليه، وبعد ذلك يكون حراماً ولا يهمه إن وقع فيه أو لا.

وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).

ذكر الله القلوب في قوله سبحانه: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].

فعمى البصر يؤجر عليه الإنسان طالما أنه صابر محتسب، (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه -أي: بعينيه- فصبر، عوضته عنهما الجنة).

فالله يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} [الحج:46] إذاً: العمى عمى القلب ليس عمى البصر، والقلب في الصدر، وقلب الإنسان يعمى عن معرفة الحق.

فهذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله)، وهذا القلب محل تفكير الإنسان ومحل ما يعقل به، ويؤكد ذلك أنه لم يقل (القلوب) فقط، ولكنه قال: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].

فمحل فكر الإنسان وتعقله وعواطفه هو قلَبْه الذي في صدره، وهذه النكتة ذكرها القرآن في الماضي واكتشفها العلماء حديثاً، وذلك لما بدءوا في زراعة القلوب بدأ ينكشف لهم أن القلب هو محل تعقل الإنسان ومحل عواطفه وبصيرته، فعندما ينقلون قلب إنسان لإنسان آخر يجدونه حياً أشبه بالميت، ليس عنده عاطفة ولا حواس، ولا يعرف أقاربه، ولا يعرف أن بينه وبينهم رحماً؛ لأن قلبه حَلَّ مكانه قلب آخر، فسبحان الله الذي يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].

ويخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ هذا القلب قطعة من اللحم موجودة في صدره، إذا صلحت هذه القطعة من اللحم صلح عمل الإنسان كله، فالقلب ملك والجوارح جنود، إذا صلح الملك صلحت رعيته.

قال: (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت -إذا فسد قلب الإنسان- فسد الجسد كله)، والقلب يدفع الإنسان بتهوره إلى أن يقع في الحرام، وذلك عن طريق وقوعه في الشبهات، واستهانته بمحارم الله سبحانه.

فالإنسان يصلح قلبه بموافقة شرع الله سبحانه، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)) [الشمس:9 - 10]، إذاً: يزكي نفسه، ويطهر قلبه من الآفات، ويطهر نفسه من البلايا والمعاصي، ويئوب إلى الله سبحانه ويتوب، ويصلح حاله مع الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015