الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب ذكر الموت وقصر الأمل.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً فقال: هذا الإنسان وهذا أجله فبينما هو كذلك إذ جاء الخط الأقرب)، رواه البخاري.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال: هذا الإنسان وهذا أجله محيطاً به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)، رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بادروا بالأعمال سبعاً؛ هل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات، يعني: الموت)، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن].
هذا باب ذكرنا بعضاً من الأحاديث التي فيه، والمقصد من الباب بيان أن الموت قريب جداً من الإنسان وأنه يأتيه من حيث لا يحتسب، وأنه ينبغي عليه أن يتفكر في هذا الموت، وأنه إذا قابل ربه سبحانه فسيندم على ما فرط في هذه الدنيا من أعمال كان يقدر أن يعملها فتركها وسوّف حتى لقي الله فلم يجد إلى الرجوع إلى الدنيا سبيلاً.
كلما يتذكر الإنسان الموت يحفزه على العمل الصالح وعلى تقوى الله تبارك وتعالى، وهذه الأحاديث تفهمنا هذا المعنى، ومنها حديث أنس رضي الله عنه ومثله حديث ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وفي حديث أنس: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً)، وفي حديث ابن مسعود: (خط النبي خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه)، وكأنه رسم مستطيلاً ورسم خطاً طويلاً في وسط هذا المستطيل خارجاً منه.
وكأن الإنسان في أول هذا الخط يحيط به هذا المستطيل أو المربع، والخط الطويل الخارج من المستطيل هو خط أمل الإنسان، فالإنسان أمله بعيد جداً، فهو ينال منه أشياء وهي التي في حدود هذا المستطيل، وهذا المستطيل هو أجل الإنسان، فأمل الإنسان أمل بعيد، فهو يتمنى أن يكون كل شيء عنده، فقال هنا في الحديث: (وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي هو في الوسط)، فالخط الطويل الذي ذكره هو أمل الإنسان ومن حوله على الشمال واليمين خط خططاً صغاراً، صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الخطوط الصغيرة هي الأعراض التي تعتري الإنسان من مرض أو من أطماع يطمعها، أو أشياء يأخذها وينالها وأشياء لا ينالها، ولكن ما زال أمل الإنسان بعيداً يمثله الخط الطويل، حتى إذا جاء الموت انقطع هذا الخط وانقطع الأمل، قال صلى الله عليه وسلم بعد أن خط هذه الخطوط: (هذا الإنسان وهذا أجله محيطاً به).
فحال هذا الأجل أنه محيط بالإنسان، فلا يمكن للإنسان أن يفر من أجله أبداً {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
قال: (وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)، فأعراض الدنيا التي تعتري الإنسان كثيرة من أمراض وأطماع وهموم وكروب وسعادة وشقاء.
وفي الحديث الأول قال: (هذا الإنسان وهذا أجله، فبينما هو كذلك - أي: ينظر إلى الخط الأبعد - إذ جاء الخط الأقرب)، يعني قطع عليه الموت أمله فالموت هو قاطع آمال الإنسان.
لذلك فإن المؤمن يكون أمله في حدود ما يقدر عليه، وأمله العظيم يكون في رب العالمين سبحانه وفي جنة الخلود، ويكون أمله في السعادة الأبدية عند الله عز وجل، أما الآمال التي في الدنيا فلا يمكن للإنسان أن يحصل على جميع ما يؤمله وخاصة إذا كانت خيالات، حيث يجلس الإنسان فيتخيل أن يكون عنده قصر وأن يكون عنده سيارة ويريد أن يكون عنده كذا من الآمال وهو لا يعمل لهذه الأشياء، وقد يعمل الإنسان وينسى ربه سبحانه.
وهناك فرق بين المؤمن والكافر، فالكافر أدخل نفسه باختياره في دوامة الآمال فيظل يدور مع الدنيا وتدور به، أما المؤمن فإنه قد حدد هدفه وعرف ما الذي يريده من هذه الحياة الدنيا القصيرة، وهو أن يستغلها في عبادة الله وفي طاعة الله سبحانه، لا شك أنه يحتاج في هذه الدنيا إلى طعام وشراب وكسوة وسكن وزوجة، ويحتاج إلى أن يكون عنده أولاد، وأن يكون عنده عمل يعمل به، ولا أحد يمنعه من هذا الشيء، لكن الأمل في أن يحصل الدنيا كلها فهذا لا يحصل لأحد، فلا يؤمل الإنسان أن يكون أفضل الناس في الدنيا، وإنما يتمنى أن يكون أفضل الناس عند الله عز وجل {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فبتقوى الله يحصل المرء الخير العظيم ويحصل أعظم الغنى وهو غنى القلب.