حديث آخر: وفيه مثال جميل يذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل البخيل والمنفق) وبالمثل تتضح للإنسان الصورة ويستحضرها ويعرف حسنها أو قبحها.
فقال: (مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه).
فهذا إنسان يريد أن يقاتل الأعداء، واشترى قميصاً حلقاته من حديد، من أجل أن يتقي به سيف الخصم، ثم وضع هذا القميص من رقبته إلى أصابع قدميه، فالإنسان المنفق يده مبسوطة، فهو ينفق في وجوه الخير ويده سهلة الحركة في الإنفاق.
والآخر خائف ضام يديه على صدره وعلى رقبته لا يريد أن يخرج شيئاً، كمثل القميص يحتبس في هذا المكان ولا ينزل.
فعندما يقاتل هذا عدوه وهذا عدوه، أيهما ينجو؟ قال صلى الله عليه وسلم: (فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت) أي: يمد يده كالقميص ينزل ويغطي سائر جسده.
قال: (أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه) حتى يلقى ثواب الله سبحانه وتعالى، ووقايته لهذا العبد من النار، تسبغ فوق هذا الإنسان فيقيه الله عز وجل النار، معناه: أنه كلما أنفق استرخت المفاصل، ويسرت يده، وإذا بالقميص يوارى هذا الإنسان، فقال صلى الله عليه وسلم: (حتى تخفي بنانه وتعفو أثره)، انظروا هنا القميص الذي لبسه، غطاه كله وغطى أصابعه وآثار مشيه.
وقوله: (تعفو أثره) المعنى: أنه يريد أن يتوارى من عدوه بلبسه هذا القميص، فحين يهرب من عدوه يطمس قميصه آثار الأقدام فيتواري عن عدوه، كذلك هذا الإنسان الذي أنفق كأنه ستر نفسه من النار، فلا تلفحه ولا تطوله هذه النار.
قال: (وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا، إلا لزقت كل حلقة مكانها) البخيل تحدثه نفسه هل ينفق أو لا؟ فيكون أكثر تثبتاً على المال، كمثل القميص الذي لبسه يقف في مكانه ولا ينزل، وكل حلقة لزقت مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع، ويريد أن ينجو من غضب الله ومن عذابه يوم القيامة وهو لا ينفق.
إذاً هنا الإنسان المؤمن ينفق لله عز وجل فينفق الله عز وجل عليه في الدنيا، ويعطيه الأجر العظيم في الآخرة، ويقيه النار، والعياذ بالله.