الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى].
قال الله تعالى: ((وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)) [سبأ:39].
وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272].
وروى مسلم عن أبي إمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم! إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى).
رواه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها) رواه مسلم].
المؤمن واثق في أن الرزق بيد الله سبحانه، ولا يزيد الرزق حرص حريص عليه، ولا يقلل من الرزق أن الإنسان يتركه ويتهاون في شيء، فكله مكتوب عند الله، يأتي الإنسان رزقه المقسوم من حيث سعى إليه، أو من حيث لم يسع إليه، والله يقتر على الإنسان كسبه بصورة معينة فيضيق عليه، ويفتح ويبسط لإنسان آخر، والله يفعل ما يشاء.
فالمسلم يثق في الله سبحانه، وأنه بيده الخير سبحانه تبارك وتعالى، وأنه يعطي بقوله: كن فيكون، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
وإذا أنفق المؤمن فإنه واثق في أن الله يخلفه خيراً مما أنفقه، قال تعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272].
وقال: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273].
وقال: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة:272] والإنسان المسلم إذا أنفق ابتغاء وجه الله سبحانه، فإن الله يعطيه أفضل مما أعطى لله تبارك وتعالى.
ومن الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم! إنك إن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك) فـ (أن والفعل بعدها) مصدر، ومعناه: بذلك الخير خير لك، وإمساكك الفضل والخير شر لك.
فإذا كان عندك فضل من طعام فعد به على من لا طعام عنده، ولا ترم به إلى القمامة، ولم يأمرك النبي صلى الله عليه وسلم أن تنفق قوتك وقوت عيالك، وإنما تبذل الفضل.
وجاء في القرآن قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] أي: الزائد عن حاجتك، فإذا أنفقت من هذا الزائد، فلك الأجر عند الله، ولك الوعد من الله أنه يزيد هذا المال، ويعطيك خيراً من هذا المال في الدنيا والآخرة، فينمي لك المال ببركة إنفاقك، ويثيبك الجنة في الآخرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تلام على كفاف) أي: إذا كان دخلك على قدر الواجبات من نفقتك، فلن يلومك الله عز وجل على أنك لم تتصدق، فهو لم يعطك ما تتصدق به.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وابدأ بمن تعول) هنا يعلمنا أدب الإنفاق وهو أن المسلم لا يترك الواجب عليه وينتقل إلى النافلة، ولكن يبدأ بالفرض الذي عليه، وهو أن يطعم نفسه ثم أولاده ثم زوجته ثم أباه ثم أمه، ثم يخرج الفضل بعد ذلك لمن أمره الله عز وجل أن يخرج إليهم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (واليد العليا) وهي يد المعطي كما جاء في الحديث الآخر، فهي خير من اليد السفلى، وهنا تشجيع للمسلمين على الإنفاق، سواء كان عندهم مال كثير أو قليل، فالجميع ينفقون؛ فهنا الإشارة جميلة في آخر الحديث: (اليد العليا خير من اليد السفلى) فمن من الناس يقول: لا، أنا يدي تصبح شراً، يدي تكون أقل من غيري، وغيري أحسن مني عند الله عز وجل، فأنا أنفق.
فتنفق، فتكون يدك اليد العليا خيراً من يد الإنسان الذي يتكفف ويسأل الناس.