جاء في حديث آخر عن حكيم بن حزام في معنى الحديث الأول إلا أن فيه زيادة- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول).
أي: إن كان عندك زيادة مال فابدأ بأهلك الذين تعولهم.
ثم قال: (وخير الصدقة عن ظهر غنى)، أي: خير الصدقة ما تركت غنى، لأن الإنسان قد يتصدق وبعد أن يتصدق بالمال كله يمكن أن يبتليه الله فلا يجد مالاً يسد حوائجه فيندم ويقول: يا ليتني ما تصدقت بالمال كله، فيكون بهذا قد أضاع أجره عند الله، وأضاع ماله في الدنيا.
فالأفضل للإنسان إذا تصدق أن يترك لنفسه ما يغنيه؛ لأنه عندما يعطي ولا يزال غنياً يكون ذلك مدعاة له أن يعطي ويتصدق مرة أخرى، ولا يتضجر من الصدقة، أما الذي يعطي ماله كله ثم يجد نفسه فقيراً، فقد لا يتصدق مرة أخرى، ولذلك كان خير الصدقة ما أبقت لصاحبها غنى.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يستعفف يعفه الله).
ويستعفف من العفاف، والعفيف هو الإنسان الذي لا ينظر إلى ما في أيدي الناس، فالناظر إلى ما في أيدي الناس إما أن يتمنى ما في أيدي الناس، أو يتحسر على أنه ليس عنده مثلهم.
وإذا تمنى فلعله يعطى ولعله لا يعطى، فإذا كان لا يعطى فقد أتعب نفسه بالنظر إلى ما في أيدي الناس، وإذا أعطاه الله عز وجل فلعله يفتن فيه فلا يعطي الحقوق لأصحابها، إذاً: الأفضل أن لا ينظر إلى ما في أيدي الناس، وإنما ينظر إلى من هو دونه وأقل منه ولا ينظر إلى من هو أعلى منه.
إذا نظر إلى من هو دونه حمد الله سبحانه على ما أعطاه من النعم، وإذا نظر إلى من هو أعلى منه ربما جعل ذلك في قلبه حسرة، ولعله يقول: إن الله لم يعطني شيئاً، فينكر نعم الله عز وجل عليه فيستحق العقوبة من الله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يستغن يغنه الله)، فاستغنى بالله سبحانه تبارك وتعالى وعمل وكد وأتعب نفسه ليطلب الرزق، فأعطاه الله سبحانه، أما النظر إلى الناس فليس من ورائه إلا أن يحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، أو يتحسر على حاله الذي هو فيه، وفي كل شر.
جاء في صحيح مسلم عن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج له مسألته مني شيئاً وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته).
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يسأله أحد إلا ويعطيه، ولكن هل كل من أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم كان راضياً أن يعطيه؟
صلى الله عليه وسلم ( فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج له مسألته مني شيئاً وأنا كاره)، لأنه يستحي ألا يعطي صلى الله عليه وسلم، فقد يعطي ويكون راضياً، وقد يعطي وهو كاره، فهذا الذي كره النبي صلى الله عليه وسلم إعطاءه لما أخذ المال لا تكون بركة في هذا المال الذي أخرجه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يعطي ومع ذلك لا بركة في هذا المال؛ لأنه أخذه بغير رضا النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا فكل إنسان يأخذ مالاً بغير رضا صاحبه لا بركة له فيه.