وقال الله عز وجل عن قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79].
فالمال يطغي الإنسان ويغره، فهذا قارون لم يكن من آل فرعون، ولم يكن من كبار وزراء فرعون، ولكنه كان من أغنياء بني إسرائيل، فمن المفترض أن يكون من أتباع موسى النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ويتأدب بأدبه، ولكنه اغتر وطغى وبغى وتكبر على قومه فاحتقر قومه، وأراد أن يلحق نفسه بالكبار، فحذره الناصحون من الدنيا وأمروه أن يطيع الله سبحانه وتعالى، وأن يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة، قال تعالى عنهم: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77].
وقارون لم يكن من قوم فرعون، قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76]، ومن المفترض أيضاً أن قوم موسى كانوا في ذل هنا في هذا البلد؛ لأن فرعون أذلهم، واستحيا نساءهم، وقتل أبناءهم، وهذا رجل منهم، فمن المفترض أن يستشعر ما بقومه من ذل، ومن احتقار فرعون وجنوده لهم، فيكون معهم لا عليهم، ولكنه طغى واستكبر، فحذروه من معصية الله سبحانه وتعالى فأبى، قالوا له: خذ من هذه الدنيا نصيبك ولا تضيع حظك من الآخرة، وأحسن للخلق كما أحسن الله إليك.
فكان الجواب أن قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، يعني: أن الله أعطاني هذا المال لأني أستحقه، ولم يعطكم أنتم لأنكم لا تستحقونه، قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، ولم يعتبر بما حصل للقرون السابقة، والأمم الماضية ممن ادعوا هذه الدعوى، ولكنه خرج متكبراً متجبراً على قومه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79]، وقد كان لديه من الكنوز والخزائن ما إن مفاتيح هذه الخزائن، {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، كما قال سبحانه وتعالى، وكان معه جماعة من الرجال الأشداء الأقوياء الذين يحملون مفاتيح هذه الخزائن، ومع ذلك لا يقدرون على حمل هذه المفاتيح.
قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، فلما نصحه قومه خرج يتبختر في ثيابه ويريهم أمواله، وأنه يستحق ذلك، قال تعالى: ((فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ)) [القصص:79].
الناس بطبعهم منهم من يحب الدنيا، ومنهم من يحب الآخرة، فالذين يريدون الدنيا سرعان ما يشتهون مثل هذا الذي معه، فهؤلاء نظروا إليه وهو في زينته، راكب على دوابه في حشمه وخدمه، فقالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79].
فهؤلاء الجهلاء قالوا كما قال هو، فإذا كان الله قد أعطاه هذا الشيء فلأنه يستحق ذلك، قال تعالى عنهم: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79].
وكما أنه يوجد الحمقى في كل زمان ومكان، فكذلك يوجد أهل العلم وأهل الطاعة وأهل الخوف من الله سبحانه، فقد قال الذين يخافون من الله ويريدون الدار الآخرة لهؤلاء: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، فاصبروا على هذه الدنيا حتى يسكنكم ربكم سبحانه جنته! وهم لن يعتبروا حتى يروا نهاية هذا الإنسان، وخاتمته، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]، ثم إذا بالذين كانوا يتمنون مكانه بالأمس يقولون: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82]، أخيراً عرف هؤلاء أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، أي: ويضيق على من يشاء، {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82].
ثم ختم سبحانه هذه الآيات بقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
فبعد أن ذكر الله لنا قصة قارون ساق لنا الحكمة في آية جميلة عظيمة يقول فيها: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:83]، فإننا نجعل الآخرة للذين يتقون الله سبحانه، وللذين لا يريدون العلو والاستكبار في الدنيا، قال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83].