يقول ابن عمر رضي الله عنه (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
فالإنسان إذا كان غريباً في مكان ما، فإنه لا يهتم لهذا المكان؛ لأنه يعرف أنه دار غربة وعما قريب سيعود إلى بيته وإلى بلده مرة أخرى، ولذا لن يهتم بتجميل المكان الذي هو فيه؛ لأنه ليس دار إقامة بالنسبة له.
وكذلك عابر السبيل فإنه في أثناء طريقه قد يمر على شيء يشتهيه ولا يأخذه ويرجئ أخذه إلى أن يصل مأواه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ابن عمر وجميع المسلمين: أن الدنيا سبيلك للآخرة وأنك غريب في الدنيا ومكانك الأصلي عند الله عز وجل في جنة الله، وإنما أهبطت إلى الدنيا بقضاء الله وقدره لتعيش فيها فترة ثم ترجع إلى جنة الله سبحانه، فاعمل لهذه الجنة، وإذا كنت في هذه الدنيا كنت كهذا الغريب وكعابر السبيل تحصل منها ما يحل لك، تاركاً الحرام، ولا توطن نفسك على العيش فيها.
وهنا يقول الراوي: كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك).
تعلم ابن عمر الحكمة من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء)، وكأنه يقول: إذا كنت غريباً في هذه الدنيا لعلي لا يأتي علي المساء إلا وقد فارقتها فلا ينبغي أن أؤجل الأعمال التي أعملها في الصباح إلى المساء، فإذا كان عليّ دين أسارع في قضائه، وإذا كان علي حقوق لله عز وجل أؤديها ولا أسوف، وإذا كان علي حقوق للخلق أؤديها، إذ المؤمن دائم النظر إلى الموت لعله يأتيه فجأه.
وقوله: (وخذ من صحتك لمرضك)، وصية جميلة لـ ابن عمر رضي الله عنه، إذ الصحة عماد القيام بالأعمال والتكاليف، فأنت في صحتك تقدر على القيام كما تقدر على العمل الصالح وتقدر على الإنفاق، ولذا يوجهك ابن عمر أن تأخذ من هذه الصحة فتقوم الليل لله سبحانه وتعالى، وتكثر من الصيام لله سبحانه وتعالى، وتسعى جاهداً لتفعل الطاعات مستغلاً الصحة قبل أن يأتي المرض، فقد يحذرك الأطباء من القيام بكثير من الأعمال كالصوم والقيام وغيرها من أعمال الطاعات.
إن وصية ابن عمر بالأخذ من الصحة للمرض كنز عظيم جداً، فإنه إذا واظب الإنسان على صيام الإثنين والخميس وصيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، ثم جاءه المرض وحذره الأطباء من الصيام، فإنه يكتب لهذا الإنسان ما كان يفعل قبل المرض، فيكتب له أجر صائم وهو مفطر وبذلك يكون قد أخذ من صحته لما ينفعه في مرضه.
وكذلك إذا كان يواظب على صلاة الجماعة في صحته، ويواظب على قيام الليل ثم جاء المرض فأقعده في بيته وأصبح يصلي على سريره، فإن الله عز وجل يأمر الملائكة أن يكتبوا له ما كان يفعله صحيحاً مقيماً، فيكتب له وهو في فراش مرضه كأنه يصلي مع الناس في الجماعة ويكتب له أجر الجماعة كما يكتب كأنه قائم الليل، وذلك من فضل الله ورحمته سبحانه.
قوله: (فخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك).
قال العلماء: معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله.