بدأ الإمام النووي هذا الباب بقول الله سبحانه وتعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس:24].
وهذا تشبيه من ربنا سبحانه وتعالى لهذه الدنيا بهذا المثال المركب الذي ننظر إليه، فالماء يأتي الناس وهم في قحط، فتنبت الأرض نباتها، وتخرج ما فيها من ثمار وما فيها من جنات وما فيها من زروع وغير ذلك، فإذا أنبتت الأرض فرح الناس بهذا النبات الذي خرج لهم فأخذوه مستكثرين منها، كما قال تعالى: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس:24].
ثم قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} [يونس:24]، وامتلأت بالثمار وبالزروع، بحيث يكون فيها الجنات والبساتين، وصارت الأموال في أيدي الناس، وتزخرفت الدنيا لهم وازينت، وظنوا أنهم قادرون عليها، أي: يطغى الواحد منهم، ويرى أنه قادر على هذه الدنيا؛ لأنها أتته، ولم يعلم أن الذي آتاه قادر على أن يحرمه سبحانه وتعالى، وقد يعلم ذلك ولكنه يتغافل.
يقول الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24].
قوله تعالى: (ليلاً) أي: جزءاً من الليل.
(أو نهاراً): جزءاً من النهار.
(جعلناها حصيداً) أي: حصدناها وأهلكناها وتبرنا ما فوقها، فوجد الإنسان الذي كان ينظر إلى الزروع والثمار والأموال والأشجار وكان يرى أنه قادر على ذلك، وجد كل ذلك قد ضاع فجأة، حيث أتاها أمر الله لحظة بالليل أو بالنهار فصارت كالزرع المحصود، بمعنى أن النخيل خلت من الثمار، وأن الأرض خلت من الأزهار، وخلت من الحبوب ومن غيرها، ذهب هذا كله، وأحرقه الله سبحانه وأهلكه، فإذا بصاحبه يندم على ذلك.
وقوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24] أي: كأن لم تكن ممتلئة ثماراً بالأمس، وكأن لم تكن فيها كثرة من ذلك.
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24]، أي: مثل هذا التفصيل الذي فصلنا نفصل الآيات لقوم يتفكرون، فالإنسان العاقل الذي يتفكر في هذه الدنيا يقول: ما الذي فضلني على غيري فأعطيت هذه الدنيا؟
و صلى الله عليه وسلم لا فضل لك في هذه الشيء، فالله يعطي إنساناً ويحرم إنساناً، أعطى هذا لا لفضله، وحرم هذا لا لبعده عن الله عز وجل، ولكن لحكمة من الله سبحانه، فالذي تأتيه الدنيا عليه أن يحمد الله سبحانه وتعالى، والذي لم تأته الدنيا عليه أن يحمد ربه سبحانه، ولينظر في الحكمة، فلعله لو أعطاه منها أهلكه بطغيانه، فيحمد ربه على ما هو فيه من نعمة.