خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا).
هذا الكلام لمن يعقل الشهر الحرام والبلد والحرام، في مناسك الحج والإحرام يقول لنا: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)، كحرمة هذا اليوم العظيم يوم الحج الأكبر، في هذا الشهر ذي الحجة، في هذا البلد الحرام، فمن يعقل يعرف أن هذا اليوم يوم عظيم جداً، وحرمة هذا اليوم شديدة يقول لك: حرمة المسلم كحرمة هذا اليوم.
وطالما أنا أعرف أن للمسلم حرمة إذاً كيف أقع في حرمة المسلم؟ كيف أغتابه؟ كيف أفسد بينه وبين غيره؟ كيف أتحمل مظلمة آتي يوم القيامة يسألني الله عنها، ويفضح الله عز وجل الظالم بسببها؟ من الأحاديث حديث عدي بن عميرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً).
المخيط: الفتيلة التي تدخل في الإبرة، يا ترى كم قيمتها؟ الإنسان قد يعمل في مكتبة ثم يأخذ دبوساً من المكتب يدبس به الورق التابعة له، ثم ترمى، فهو مسئول على ذلك عند الله عز وجل.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الذي نستعمله على عمل يأخذ منه إبرة أو مخيطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة، والغلول قد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم أشد من السرقة.
فقام رجل أسود من الأنصار وقال: يا رسول الله! اقبل عني عملك، نحن تعودنا على المبالغة في الكلام، فكل إنسان يظن في نفسه أنه أمين، وأنه سيؤدي ما أمر الله عز وجل به، لكن هذا الرجل فهم أنه إذا كانت الإبرة سنعاتب عليها فأنا ممكن أنسى شيئاً أو آخذه دون تعمد، فقال: اقبل عني عملك هذا، لا أريد أن أشتغل لك في شيء، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ومالك؟ قال: سمعتك تقول: كذا وكذا.
فقال له: هو ما قلت، أي فإن استطعت أن تعمل دون أن تمد يدك ولا على إبرة فاعمل، وهنا لم يستح النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول له ذلك.
وانظر إلى حديث وفد الأشعريين، فقد كانوا أناساً طيبين جداً! وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمدحهم بأشياء تدل على أنهم أهل تكافل وتعاون فيما بينهم، يأتي اثنان منهم مع أبي موسى الأشعري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بهم يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعملهم عنده على الصدقات أو على غيرها، فيقول لهم: (إنا لا نولي هذا العمل من طلبه).
يقول صلى الله عليه وسلم: (إن أخونكم عندنا من طلب العمل)، يعني: أنه يختار شخصاً أميناً نقياً على جمع الصدقات من الناس ويوزعها، فهذا أمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي اختاره، أما أن يذهب شخص إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: استعملني، فلا.
فكان هذا الجواب الشديد: (أخونكم عندنا من طلب العمل)، يعني: أكبر خائن عندي الإنسان الذي يأتي إلي يقول: استعملني على هذه الأشياء، وقال: (إنا لا نولي هذا العمل من طلبه)، صلوات الله وسلامه عليه.