كذلك من الأحاديث حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، فذكرا فيه: لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، وذلك سنة تسع من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى بغزوة العسرة، وخرج الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم أعداداً ضخمة وأصابهم مجاعة، فقالوا: (يا رسول الله! لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا) الغزوة كانت في تبوك، وتبوك في أطراف الشام، فإذا نحروا النواضح وأكلوها سيرجعون إلى المدينة على أرجلهم وهي مسافة بعيدة، وقد يهلكون في الطريق.
فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (لو أذنت لنا) وهذا من أدب الصحابة كل واحد منهم يملك ناضحاً له، ولكن قبل أن يذبح الناضح الذي معه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم متسأذناً، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم.
قالوا: (لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا)، بمعنى: لو أذنت لفعلنا، ولو لم تأذن لم نفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افعلوا، فجاء عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! إن فعلت قل الظهر)، يعني: هؤلاء راكبون عليها، ولعل هناك اثنين أو ثلاثة يركبون على بعير واحد، وكان البعض منهم يمشي في الطريق جزءاً ويركب في جزء آخر من الطريق، وقد يعتقب الخمسة والستة والسبعة على البعير الواحد، فإذا ذبحوا النواضح يصعب عليهم الرجوع.
فاقترح عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه هذا الاقتراح العظيم، فقال: (يا رسول الله! ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع لهم بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك البركة) وهو مستيقن، أنه سيكون في ذلك البركة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ففعلاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمؤمنين رءوفاً رحيماً ظهرت رأفته ورحمته وحنانه عندما استأذنوه، فلو قال: لا، لرجع كل واحد يفكر: سنجوع ولن نجد الأكل، فهنا من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه أذن لهم، فجاء عمر واقترح اقتراحاً آخر: أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مباركة، فما هو المانع بأن تدعو بفضل الأزواد، والله تبارك وتعالى يبارك في ذلك؟ ثقة من عمر في ربه سبحانه، وفي بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم ودعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، وهو طعامه الذي بقي معه، وكانوا يأكلون ذلك في الطريق، فكيف سيأكلون كف الذرة وهم في الطريق؟! هل هذا أكل جيش ذاهب ليجاهد في سبيل الله؟! ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة خبز، حتى اجتمع على ذلك النطع من ذلك الأكل شيء يسير، ومن ثم فرش نطع - وهي قطعة جلد - على الأرض من أجل أن يأتوا بما معهم من أزواد، فاجتمع قليل من الطعام فوق ذلك النطع من الجلد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل البركة والنماء والزيادة والفضل على هذا الطعام، فإذا بالطعام يزيد، فقال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملئوه، وأكلوا حتى شبعوا وفضل فضلة، وهذه بركة من بركات رب العالمين بدعاء النبي صلوات الله وسلامه عليه! وهذه ليست أول مرة، فقد رأينا قبل هذا في الحديبية كيف دعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى كثر الماء، وهنا أكل الجيش من هذه الكسر ما ملئوا به بطونهم وملئوا أيضاً أوعيتهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) وهو يعرف ذلك صلى الله عليه وسلم يقيناً، ولكنه يعلمهم ما الذي ينبغي أن يقال في هذا الوقت، من الشهادة بأنه رسول حق، وهذه معجزة من الله سبحانه وتعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة)، أي: لا يشك بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله واحد لا شريك له، وهذا التصديق يدفع صاحبه إلى العمل، فإذا قال ذلك مصدقاً بقلبه غير شاك في ذلك استحق أن يدخل الجنة.