من الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أنه قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه، فقالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم.
يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه).
والمعنى: أن الإنسان يحترم أباه وأمه ولا يشتمهم ولكنه يشتم إنساناً آخر فيرد عليه، وحينها يكون متسبباً في شتم أبيه وأمه، فيكون كأنه هو الشاتم لهما، وهذا تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسب الإنسان أبا إنسان آخر فيرد عليه ويسب أباه، أو يسب أم إنسان فيسب أمه، فإذا فعل ذلك إنسان صار كأنه هو الذي سب أبا نفسه وأمه فكان من الكبائر.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى حرم عقوق الأمهات، ومنعاً وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) متفق عليه.
قوله: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات)، لا يعني جواز عقوق الآباء! بل هو حرام أيضاً وإنما لم يذكر لإرادة الجناس بين الكلام والله أعلم.
قوله: (ومنعاً وهات)، أي: كثرة الكلام والجدال، فالجدل الكثير منعنا منه ربنا سبحانه وتعالى.
قوله: (ووأد البنات)، وكانوا في الجاهلية يئدون بناتهم، فتجد الرجل عندما تلد زوجته يستقبل الجنين، فإذا كان ولداً فرح به، وإذا كان بنتاً حزن وتبرم، قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59].
وهذا من وسوسة الشيطان لهذا الأب، فهو يحزنه ويهول له ما نزل به، ويظل كذلك حتى يأخذ البنت ويدفنها وهي حية، ثم يزعمون بعد ذلك أن هؤلاء البنات لله، قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى} [النحل:62]، يقولون: لنا نحن الأحسن من الولد، والبنات لله ربنا فهو الذي خلقهن وسنرد إليه ما خلق، فيقتلون البنات بهذه الصورة القذرة البشعة، ولعل أحدهم يحمل ابنته وقد بلغت مبلغ التمييز ويذهب ليحفر لها حفرة، والبنت لا تعلم ماذا يعمل أبوها! فتعين أباها، وقد تمسح له التراب عن وجهه وهو يحفر لها القبر الذي سيدفنها فيه! فأي قلوب قاسية متحجرة كان عليها هؤلاء الناس؟ ومن معجزة الإسلام أن غير قلوبهم، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وقد كانت عقول أهل الجاهلية متحجرة متعفنة، فتجدهم يعبدون غير الله سبحانه وتعالى، فيعبد أحدهم الحجر وهو يعلم أنه هو الذي صنعه بيده، ويعلم أنه هو الذي أتى به من الأرض، ومع ذلك يعبده من دون الله، وقد يسافر أحدهم في الطريق ويجد حجراً فيعجبه شكلها ويأخذ ثلاث أحجار بجوارها، فيضع الثلاث تحت القدر، ويترك الرابعة من أجل أن يعبدها من دون الله! فكيف فرق بينها وهي كلها أحجار؟!! وإذا لم يجد حجراً أتى بقليل من الرمل، ثم حلب الشاة عليه ثم صنع به تمثالاً يعبده من دون الله، فأي عقول مع هؤلاء الناس {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44].
فكانوا يستنصرون بهؤلاء، ويدعونهم، ويستفتحون بهم من أجل أن ينتصروا، فإذا بالله عز وجل يُهدي إليهم هذا الدين العظيم -دين الإسلام- فيغير أخلاقهم، وينير الظلمات التي في قلوبهم وعقولهم فيعبدونه سبحانه، وإذا سمع أحدهم القرآن رق قلبه وبكى على ما كان منه، فبعدما كان لقسوة قلبه يئد ابنته صار من أحن الناس بعد نزول كلام رب العالمين سبحانه.
قوله: (وكره لكم قيل وقال)، أي: الإكثار من الكلام، حقيقة أو ظناً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)، فتجد أحدهم يقول: أظن كذا، أو يعمد إلى نقل الكلام بين الناس، فما أن يسمع كلاماً في مجلس من المجالس حتى يبادر في نقله إلى مجلس آخر ويزيد عليه.
والنميمة من تنمية الكلام والزيادة عليه، فإذا سمع من هنا كلاماً نقله على جهة الإفساد، وهذا شأن المرتابين، أما المؤمن فإنه يحسب كلامه حساباً عظيماً، ويعرف أن كل كلمة يقولها فإن الله عز وجل يسأله عنها يوم القيامة.
قوله: (وكثرة السؤال)، أي: الإلحاح في طلب ما يحتاج إليه وما لا يحتاج إليه، وهو مكروه مع الناس، أما مع الله عز وجل فإن الإلحاح في الدعاء مستحب، فإن الله عز وجل يرضى عنك إذا سألته وألححت في سؤاله، أما العبد فيغضب.
قوله: (وإضاعة المال)، نهى عن التبذير وإضاعة المال فيما لا ينبغي، كإضاعته فيما حرم الله سبحانه، حتى ولو كان كسب الإنسان كثيراً فلا بد أن يعلم أنه سيسأل عن المال سؤالين يوم القيامة: من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟ ويعتقد البعض أن الدخل الكثير يعفي صاحبه من المساءلة عن القليل، وهذا اعتقاد خاطئ، بل إن الله يسأل العبد عن النقير والقطمير، والقليل والكثير، وهذا إن كان حلالاً مصدراً حلالاً مخرجاً، أما أن يضاع في الحرام فهذا أشد عقوبة ولا شك.
ومعنى أن الله كره لكم ذلك، أي: كرهه محرماً ذلك عليكم، ولذلك يأتي الإنسان الذي يسأل الناس تكثراً يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم؛ لأنه كان يسأل الناس ويمد يده إليهم، ولم يستح في الدنيا، فيأتي يوم القيامة وقد تساقط لحم وجهه، عقوبة له على فعله.