يقول الإمام النووي: [باب الإنفاق مما يحب ومن الجيد].
يعني: الشيء الذي تحبه تنفق منه ولا تنفق الشيء الرديء الذي لا تحبه، بل إذا تصدقت فتصدق بالشيء الذي مثلك يأكله، أما أنك تتصدق بالحاجة التي لا تأكلها، فتقول: بدل ما أرميها في الزبالة أعطيها للفقير، نقول: هذا لا ينبغي؛ لأن الله تعالى قال في الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] أي: لن تنالوا هذه الدرجة العالية درجة الأبرار وتجمعوا خصال الخير حتى تنفقوا مما تحبون.
جاء في الحديث عند الطبراني بإسناد صحيح: (أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرأوا من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله؟)، يعني: أن الرجل قوي ويعمل بجد وبهمة وبنشاط، فلو كان يجاهد في سبيل الله لكان أحسن، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (إن كان خرج يسعى على أولاد صغار فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان).
يعني: جعل النبي صلى الله عليه وسلم من يعمل بهمة ونشاط وحب للعمل من أجل النفقة الواجبة على نفسه وعلى أولاده جعل كل ذلك في سبيل الله سبحانه وتعالى، لم يضيق علينا في النفقة في سبيل الله بحيث يحصرها في الجهاد، بل تكرم علينا ربنا سبحانه فأخبرنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم أن من خرج يسعى على أولاد صغار فهو في سبيل الله، يعني: أجره كأجر المجاهد في سبيل الله سبحانه، وكذلك من خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، ومن خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، لكن من خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان.
فكونك تصلي الفريضة فأنت في سبيل الله عز وجل ومأجور على صلاتك، وتصلي النافلة أنت مأجور على ذلك، وتخرج إلى العمل من أجل أن تكسب مالاً لتعف نفسك وأهلك فأنت في سبيل الله، وعندما تنام من أجل أن تستريح حتى تقوم لتصلي الفريضة فإن نومك في سبيل الله وقيامك في سبيل الله وعملك ونشاطك في سبيل الله، حتى في مداعبة الرجل أهله وفي جماعه أهله يؤجر على ذلك، فهذا من كرم ربنا سبحانه وتعالى على عبيده، فانظر إلى عظمة هذا الحديث.
الحديث الآخر: يقول صلى الله عليه وسلم: (إن المعونة تأتي من الله على قدر المئونة) يعني: الله عز وجل يعينك إن ذهبت للعمل من أجل نفقتك وأهلك، وما عليك إلا أن تسعى، فستأتي المعونة منه سبحانه على قدر المئونة فلا تكسل، بل اعمل وإن كان العمل الآن لا يأتي بالثمن الكبير، ولكن على الأقل عملت وأريت الله من نفسك أنك بذلت الجهد وبحثت وتعبت في هذا العمل الذي لقيته على قدر الحال، فالله عز وجل يعطيك الأجر، وييسر لك ما هو خير لك، لكن كونك تجلس وتنتظر الرزق يأتيك من السماء فلا، إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، بل اخرج واسع وابحث عن الرزق، ورزقك يأتيك طالما بحثت.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: (إن المعونة تأتي من الله على قدر المئونة، وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء)، يعني: الله عز وجل لا ينزل بالعبد بلاء لا يقدر أن يصبر عليه، لأن من رحمة الله بعباده وعدله وكرمه أن أنزل البلاء على قدر صبر الإنسان، وكلما ازداد الإنسان قرباً عند الله، وازداد محبة عند الله زاده بشيء من البلاء؛ حتى يرفع درجته.
يذكر الإمام النووي من الآيات في هذا الباب قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267]، يعني: لا تأتى إلى الأشياء الرديئة وتعطيها للفقير، مثلاً: في زكاة الفطر يخرج الإنسان أردأ أنواع التمر ويعطيه للفقير، هذا لا ينبغي، لكن أخرج الشيء الذي تأكله وأعطه للفقير، الطعام الذي تأكله تصدق به، فالإنسان قد لا يكون له نفس أن يأكل هذا الطعام؛ لأنه بائت، ولكنه حلو وجيد ومثله يؤكل، فلا بأس أن يتصدق به، لكن يكون عنده طعام قد تغيرت رائحته ويتصدق به فلا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]، يعني: هذا الشيء الذي لا ترضى أن تأخذه ولا أن تشتريه إلا أن تتساهل وتتسامح في أخذه، فهذا لا يجوز لك أن تنفق من مثله، ولكن أنفق من خير ما أعطاك الله سبحانه وتعالى.