روى الإمام مسلم، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله!)، أي: كلنا نريد أن نعرف ما هو الشيء الذي يكفر عنا الخطايا ويرفع الدرجات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، وأصل الرباط: هو التزام الثغر، وثغور المسلمين غالباً تكون في الأماكن البعيدة النائية التي بينهم وبين أعدائهم، وحراسة الحدود فيها ثواب عظيم عند الله سبحانه وتعالى، حتى لو مات فلا يزال عمله يكتب له أنه مرابط على حماية بلاد المسلمين.
إذاً: فهل نقول لكل الناس: اذهبوا لحراسة حدود المسلمين؟ لا.
ولكن نقول لمن أراد أجر الرباط في سبيل الله: الرباط الذي نأمرك به إسباغ الوضوء على المكاره، فالذي يسبغ الوضوء على المكاره هل تظن أنه يضيع الوضوء في غير المكاره؟ هذا لا يكون، فإذا كان في الشتاء في شدة البرد والصقيع يتوضأ بالماء البارد ويصلي لله عز وجل، ويخرج في شدة البرد من أجل أن يصلي صلاة الفجر في المسجد، فمن باب أولى أنه إذا أتى عليه فصل الصيف أن يسبغ الوضوء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إسباغ الوضوء) أي: يتوضأ ويحسن وضوءه في المكاره، (وكثرة الخطى إلى المساجد)، أي: كثرة الصلوات في المساجد، فلا يضيع ولا يفرط بل هو مواظب على صلاة الجماعة كلما سمع (حي على الصلاة) هرع إلى بيت الله عز وجل ليصلي (كثرة الخطى إلى المساجد)، فإذا أتيت إلى المسجد فإنه يكتب لك مائة خطوة أو ألف خطوة أو أكثر أو أقل بحسب قربك من المسجد أو بعدك، وبكل خطوة تخطوها إما أن ترفع درجة أو تحط عنك خطيئة.
قال: (وانتظار الصلاة بعد الصلاة)، أي: تصلي ثم تمكث حتى تأتي الصلاة الأخرى، وقد تمكث ما بين الظهر إلى العصر، أو ما بين المغرب إلى العشاء تنتظر الصلاة الآتية في بيت الله عز وجل، فهذا مما يكفر الله عز وجل به الخطايا، ويرفع به الدرجات.
وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض)، (الطهور) أي: الوضوء، (شطر الإيمان)، والمؤمن يجب عليه الوضوء لكل صلاة، فلا تقبل الصلاة بغير وضوء.
وقد عبر الله عز وجل في كتابه عن الصلاة باسم الإيمان فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، وسبب نزول هذه الآية: أن الله سبحانه لما حرم شرب الخمر وقد كانوا يشربون الخمر حتى بعدما أنزل الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43]، فكانوا ينتهون عن الشرب وقت الصلاة، ثم أنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، وفي هذه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعرض بكم)، أي: يعرض بتحريم الخمر، فأنزل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]، وهنا قال: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90]، فقال الصحابة: إخواننا الذين شربوا الخمر وماتوا وهي في بطونهم قبل أن تنزل هذه الآيات هل ضاعت عليهم الشهادة أو إلى ماذا صار أمرهم؟ فأنزل الله عز وجل يطمئن هؤلاء على إخوانهم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] أي: لم تحرم الخمر يومئذ فكان لهم العذر، أما أنتم فلا عذر لكم، وقد أنزل الله عز وجل تحريمها، وما كان الله ليضيع صلاة الذين صلوا وماتوا قبل ذلك، فسمى الصلاة إيماناً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطهور شطر الإيمان)، فكأن الصلاة والوضوء جزء من أجزاء الإيمان، والوضوء شطر الصلاة.