المرتبة السادسة: ما لم ينضبط فيه وجه مما سبق من فروع الفقهاء المتأخرين، التي جمهورها لضبط رأي المذهب:
وهذا مورده عند الفقهاء المتأخرين، وجمهوره لضبط رأي المذهب، وليس المراد هنا أن كل ما في كتب الفقهاء المتأخرين من هذه المرتبة، بل إن ما في كتب الفقهاء المتأخرين منه مسائل من المرتبة الأولى، ومن الثانية والثالثة والرابعة والخامسة، لكن نجد أنه يكثر في كتب الفقهاء المتأخرين وخاصة الكتب التي عنيت بتحرير المذهب، وهذا في جميع المذاهب الأربعة، نجد أنه يكثر فيها ما هو من المرتبة السادسة.
فمثلاً: كتاب المغني لـ أبي محمد ابن قدامة رحمه الله، نجد أنه يذكر الخلاف، ويذكر أن في المسألة مثلاً ثلاثة أقوال، ويذكر استدلال المذهب، وهنا نأخذ منه أموراً تتعلق إما بالقسم الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع أو الخامس، لكن إذا أخذنا الكتب التي عنيت بتحرير المذاهب مثل الفروع لـ ابن مفلح رحمه الله، نجد أنه يذكر المذاهب، وإن كان له طريقة رمزية بحروف معينة يرمز بها إلى الخلاف وإلى المذاهب الأربعة، فهو يذكر ذلك، لكن أحياناً ينصرف إلى تنبيهات يعين بها التحرير للمذهب، وقد نجد ذلك في متون بعض المذاهب التي وضعها المتأخرون.
فمثلاً: نجد في بعض متون الفقه عند المتأخرين قولهم: "ولا يرفع حدث رجل طهور يسيرٌ خلت به امرأة لطهارة كاملة عن حدث"، فهذه التقييدات لتحرير القول، فخرج بكلمة (رجل) المرأة، وخرج باليسير الكثير، وخرج بكلمة (خلت) إذا لم تخلُ، وإذا خلت في بعضه دون بعضه، كما لو خلت في نصف الطهارة دون النصف الآخر، فهل يقال: خلت أم لا؟ وقولهم: خلت به امرأة لطهارة كاملة، بخلاف الطهارة غير الكاملة، وهذا ما يتعلق بكمال اختلائها به أو عدم ذلك، وخرج بقولهم: عن حدث، ما لو كان ذلك ليس عن حدث، كتجديد الطهارة، ونحو ذلك.
وهذه القيود في هذه الجملة بعضها لتعيين القول؛ لأنه من المعلوم أن مسألة: المرأة إذا خلت بالماء لطهارة فهل يتطهر به الرجل أو لا يتطهر؟ هذه المسألة مسألة خلافية موجودة، وهي من المراتب الأولى، لكن المقصود هنا: أن بعض هذه القيود ذكرها الماتن لتمييز القول عن القول الآخر، لكن بعض القيود تذكر من باب تحرير المذهب تحت اجتهاد معين، مثل الطهارة الكاملة والطهارة غير الكاملة، فلو خلت به لطهارة غير كاملة فإن هذا فيه تردد في المذهب، هذا هو المقصود من ذكر المسألة، وإلا فإن الأصل أن المسألة مسألة فقهية معروفة عند السلف.
أيضاً يقصد بما لم ينضبط فيه وجه مما سبق: ما يتعلق بتحرير المذهب المعين، كاختلاف المتأخرين في رأي الإمام أحمد وتحريره، فنجد روايات متعددة في تحرير المذهب، ونحو ذلك، وهذا الاختلاف في تحرير المذهب هو من الفقه الافتراضي الذي ليس وافقاً، وهو ما قد يعبر عنه بعض الأصحاب بالمحتمل، فيقول: فإن فعل كذا فيحتمل كذا.
ولابد أن يعلم أنه لا تنبغي العناية بهذه التقييدات والتحريرات أكثر من اللازم، وليس هذا من باب التنقص من هذا الأمر، ولكن العناية بالرتب الأولى أولى، فلابد أن يعنى طالب العلم بالإجماع، وبما قارب الإجماع، وبما عليه العامة والجماهير، وبما اشتهر من الخلاف، أما أن تكون أكثر العناية منصبة على القسم السادس فهذا هو الذي لا يفضل شأنه، وأما أنه يحتاج إليه في بعض المسائل لتحريرات مقصودة فهذا باب آخر.
ومن المعلوم أنه ليست المشكلة أن يعلم ما هو بالضبط المذهب الحنبلي عند الحنابلة، أو ما هو بالضبط المذهب الشافعي عند الشافعية، فإن هذا الشأن فيه كثير من السعة، بمعنى أنه لو قيل: إن ما انضبط من أقوال الإمام أحمد تنسب إليه، وما لم ينضبط تقال عنه روايات في المسألة، والعبرة بدراسة المسألة كأقوال فقهية وأدلة عامة؛ لكان هذا المسلك أكثر سعةً وأكثر رحابةً وأكثر يقينية؛ لأنه مهما رجحت داخل المذهب وفي المسألة خلاف قوي في ضبط المذهب فلن تنتهي إلى شيء قاطع، لكن إذا قلت: إن مع الإمام أحمد أكثر من رواية، فإن هذا حكم أكثر يقينية، وأكثر اتساعاً وقبولاً.
ومما يدخل في ذلك: التفريع للمسألة بالعوارض، كمسألة غسل الجمعة أهو واجب أم مستحب؟ فنجد أن بعض أهل العلم يقول: غسل الجمعة فيه ثلاثة أقوال: الأول: أنه واجب، الثاني: أنه مستحب، والقول الثالث وهو الصحيح الذي عليه المحققون وهو القول الوسط، وهو أنه إذا كانت فيه رائحة شديدة يتأذى منه الناس وما إلى ذلك فيجب عليه الغسل، وإلا فلا يجب، وقولهم: وسط، أي: بين قولين، وهذه ليست هي الوسطية الشرعية، وهذا القول الوسط في الحقيقة هو قول الجمهور، فإن الجمهور لما قالوا: إن غسل الجمعة ليس واجباً، لم يريدوا غسل الجمعة في حق من به رائحة يتأذى منه المسلمون حتى إنهم يكرهون مجالسته؛ بل إنهم يتكلمون عن أصل الحكم، فمثلاً: الإمام أحمد والشافعي ومالك وأبو حنيفة لما قالوا: غسل الجمعة ليس واجباً، إذا سئلوا عن رجل به رائحة كريهة هل سيقولون: إنه ليس واجباً عليه؟! الجواب: لا، إذاً قول البعض بالقول الثالث وأنه هو الوسط إنما قيدوا ذلك بعارض فقط، وهذا فقه يستعمله البعض كتنبيه حتى لا يفهم قول الجمهور فهماً خطأً، وإذا كان الأمر كذلك فلا بأس به، لكن أن تتحول هذه إلى أقوال ثالثة وتكون هي الأقوال الوسط، وهي الأقوال التي عليها المحققون، فإن هذا لا ينبغي ..
نعم.
هذا قد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذكره بعض المحققين، لكنهم يذكرونه من باب التنبيه فقط.