المرتبة الخامسة: ما تكافأ فيه الخلاف بين أئمة الأمصار:
والعلم بالتكافؤ هنا ليس علماً يقينياً، ولكن المقصود بالتكافؤ أنه لا يوجد فيه قول للجمهور فضلاً عما هو فوق ذلك، فنجد أن المحدثين مختلفون، وأن أئمة العراق مختلفون، وأن أئمة الأمصار مختلفون، فيكون الخلاف قد شاع واشتهر ولم ينضبط فيه مذهب للجمهور فضلاً عما هو فوق ذلك.
ومن الأمثلة على ذلك: مسألة: أيفطر الصائم بالحجامة أم لا يفطر؟ فإذا استقرأنا المسألة وجدنا أن هناك تكافؤاً بين أئمة الأمصار المختلفين فيها، وإذا رجعنا لبعض المصنفات وجدنا أن الخلاف شائع في العراق والحجاز والشام وما إلى ذلك في هذه المسألة، ووجدنا أن ظواهر الأدلة في هذه المسألة كحديث شداد بن أوس: (أفطر الحاجم والمحجوم) -وهو أقوى ما يعتمد عليه من يجعل الحجامة مفطرة للصائم- وجدنا عليه بعض الإشكالات في الثبوت أو في فقه المتن، فما معنى أن الحاجم يفطر إذا كان المحجوم مفطراً للضعف والعلة؟ وهل هذا من باب التعبد؟ وهل يقطع الصوم بمحض علةٍ تعبدية لمثل هذا الوجه؟ وأليس الأصل في المفطرات أنها مبينة كالعلة؟ فترد مثل هذه السؤالات، وإذا جئنا إلى الدليل المقابل وجدنا أن المسالة فيها تكافؤ.
مثال آخر: حكم صلاة تحية المسجد في وقت النهي، فإن هذه المسألة فيها تكافؤ في أدلتها، حتى إن ابن تيمية كان على المذهب، ثم رجع إلى مذهب الشافعي في آخر عمره، وذكر نظرية العام المخصوص والعام المحفوظ في تطبيق الاستدلال، وحتى إن الشوكاني يقول: إنه تردد في هذه المسألة، في جزء له تكلم فيه عن المشتبه من العلم، حتى قال كلمة غريبة، قال: لعله قد يكون من الأنسب أن الإنسان لا يحرص على دخول المسجد في وقت النهي! وهذا الأمر ليس حلاً، لكن هذا مما يبين أحياناً درجة التردد في المسألة، وليس القصد هنا أن نجزم أن هذه المسألة أو تلك من المتكافئ، بل إن مسألة التكافؤ مسألة نسبية في الغالب.
والترجيح فيما تكافأت فيه أقوال الأئمة يكون بالتقريب، ولا يجزم بترجيح قول على آخر، وإنما يقال مثلاً: وفي المسألة قولان لأهل العلم والأظهر كذا، أو والأقرب كذا، هذا إن كنت ناظراً في أدلتهم، وإن لم تكن ناظراً في أدلتهم وأنت على مذهب فقل: والمذهب عند الحنابلة كذا، وإن كنت من أهل الشافعية فقل: والمسألة فيها قولان والمذهب عند الشافعية كذا، ويوسع فيها على المسلمين، وقد كان مثل هذا الخلاف محل توسعة عند المتقدمين من الأئمة، والتوسعة الفقهية إذا كانت مضبوطة بقواعد الشريعة فإنها رحمة بالأمة، وليس معنى هذا أن المتكافئ من الخلاف يتخير فيه الناظرون فيه أو المقلدون بحسب الهوى، فليس في الإسلام تخير بمحض هوى النفس، بل إما تقليد للكبار، وإما اتباع للدليل.
وهذان الوجهان هما الممكنان دون غيرهما.
وقد يقول قائل: أليس من فقه التيسير أن يتخير الناس ما شاءوا؟
فيقال: هناك فرق بين التيسير وبين هوى النفس، فإن الله سبحانه وتعالى جعل اليسر في الشريعة وجعل هوى النفس في الجاهلية، قال تعالى عن أهل الجاهلية: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23]، أما التيسير فهو حال الشريعة الإسلامية.
ومن هنا فقد يسيء البعض أحياناً الفهم ولا يفرق بين هوى النفس وبين التيسير، والقاعدة الشرعية نقول: المشقة تجلب التيسير، فإذا أشكل على المسلمين مسألة وفيها خلاف محفوظ، أي: مشتهر ومعروف، فلا ينبغي أن يضيق فيها؛ بل ينبغي أن يوسع على المسلمين فيها بأقوال الجماهير، وبالأقوال المتكافئة، وهذا ليس على إطلاقه، فإن العلم دائماً محكوم بقواعد؛ لأن الذي يوسع على المسلمين بأقوال الجماهير وبالمتكافئ من الأقوال هو فقيه، والفقيه لابد أن يكون عارفاً بالمصالح والمفاسد، فإذا اقتضت التوسعة بقول متكافئ في بيئة معينة فلا ينبغي أن يوسع في تلك المسألة.
مثال ذلك: المجتمع هنا -في السعودية- محافظ على ستر الوجه، ويرى أن ستر الوجه واجب، وهذا من حيث الأدلة هو الراجح الصحيح، فهل من الحكمة أن يأتي بعض الناس في هذا المجتمع ويقول: المسألة فيها خلاف، ويردد هذا في آذان العامة، ويقول: من باب التوسعة على المسلمين بالقول المتكافئ أو ما إلى ذلك؟ الجواب: لا؛ بل إن المصلحة الشرعية تقتضي أن لا يفتن العامة؛ لأن كثيراً من العوام ربما يتحرك تحت تأثير شيء من الهوى، وليس المقصود بذلك أهل البدع وأهل التيارات الفكرية الخطيرة، بل المقصود الآحاد من العامة الذي قد يتحرك تحت رغبة شخصية وهوى في النفس، إذاً: فقه المصالح والمفاسد يمنع بعض الناس عن التحديث ببعض الخلاف، وهذا هو ما جعل علياً رضي الله عنه يقول: "حدثوا الناس بما يعرفون"، وكما قال ابن مسعود: "ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"، فحيث أدى التحديث بالخلاف إلى فتنة في مجتمع ما فلا ينبغي التحديث به.
إذاً: يوسع على العامة من المسلمين في أمصار الإسلام، وأينما وجد المسلمون حتى في غير أمصارهم يوسع عليهم، بأقوال الجماهير، وبالمتكافئ، ما لم يستلزم مفسدة, فإن الشريعة جاءت بدرء المفاسد وتحصيل المصالح.
وقد يقول قائل: إن التحديث بالخلاف فيه مصلحة.
فيقال: نعم، قد يسمى مصلحة لكنها مصلحةٌ أحياناً تكون راجحة، وأحياناً تكون مرجوحة، فحيث كانت راجحة فحدث به، وحيث كانت مرجوحة لوجود مفسدةٍ أعلى فالفقه أن لا تحدث به.
وقد ذكرنا سابقاً قول الإمام مالك لما سأله رجل من أهل العراق عن مسألة وقال إنه على قول زيد بن ثابت، فيقال له: يا هذا! إن أهل المدينة لا يعرفون إلا هذا القول فأين خلفت الأدب؟! وذلك حينما قال: إني من أهل العراق، وكذلك الإمام أحمد رحمه الله على ما عرف عنه من الزهد والعبادة والورع وما إلى ذلك، لما سأله سائل عن مسألةٍ في الطلاق، فانصدم الرجل وما ظن أن الأمر يصل إلى أن زوجته تطلق منه، وشق عليه الأمر كثيراً، فراجع الإمام أحمد، فلما اشتد في المراجعة قال له الإمام أحمد: يا هذا! هذه حلقة المدنيين.
أي: من يتفقهون على بعض كلام أهل المدينة وهم في العراق، يعني أن هؤلاء سينقلون لك رأي أهل المدينة، ورأي أهل المدينة أنها لا تطلق، فالإمام أحمد لا يدين الله بهذا القول، فما أحب أن يفتيه به، فقال: يا هذا! هذه حلقة المدنيين.
يعني اذهب إليهم وسيفتونك.
ودخل الإمام أحمد ذات يوم إلى دار بعض أصحابه، فوجد النبيذ في طرف الدار، فقال له بعض التلاميذ الذين كانوا معه: يا أبا عبد الله! هذا النبيذ، أي: أنكر على الرجل، فقال: الرجل سلطان في داره، الكوفيون يفعلونه تديناً.
أي: أن فقهاء الكوفة أحلوا النبيذ وأحلوا شربه، ويرون أنه مما أحل الله، فالدين أحله عندهم، ولاحظ قوله: الرجل سلطان في داره، فإن هذه مقدمة أساسية في الأخلاق العلمية.
إذاً: هذا الفقه هو الذي نقصده، وهو أنه لا يوسع على المسلمين لا بالشاذ ولا بالمنكر من الأقوال، وإنما بالأقوال المعروفة تحت قاعدة المصلحة.