أقسام الخلاف

إذاً: الصحابة قد اختلفوا زمن النبوة في مثل هذه الأحوال، ولما توفي عليه الصلاة والسلام انتشر مثل هذا الخلاف في مسائل الفقه وفروع الشريعة، فقد اختلفوا في مسائل كثيرة، وإن كان هذا الخلاف الذي وقع بعده عليه الصلاة والسلام انقسم في الجملة إلى قسمين:

القسم الأول: ما يحسم بنص بين، فيستقر الأمر ويرتفع الخلاف، كما خالف بعض آل البيت كفاطمة رضي الله عنها في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، فظنوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يورث، وأرسلت فاطمة -كما في الصحيح- إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها، فكتب إليها أبو بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) والحديث صحيح كما هو معروف.

فمثل هذه الأوجه من الخلاف كأنها ترتفع بوجود النص، فيستقر الأمر، وكما حصل في زمن عمر رضي الله تعالى عنه لما سار بالأجناد إلى الشام، فبلغه أن الطاعون قد وقع بالشام، فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا عليه، ثم استشار الأنصار فاختلفوا عليه، فمنهم من قال: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، ومنهم من قال: يا أمير المؤمنين! قد خرجت لأمر ولا نريد أن ترجع عنه، فكان هذا جواب المهاجرين والأنصار، ثم أمر أن يدعى من بقي معه من مسلمة الفتح، فاجتمعوا على كلمة واحدة وهي أن يرجع، فنادى: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة: أفرار من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!

لكن هذا الخلاف كأنه ارتفع بمجيء عبد الرحمن بن عوف وقوله: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به -أي: الطاعون- بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا يخرجنكم الفرار منه) فهذا النص الصريح ارتفع به هذا الخلاف الذي عرض في زمن عمر رضي الله تعالى عنه.

إذاً: هذا النوع من الخلاف يرتفع بوجود نص قاطع.

القسم الثاني: الخلاف الذي لا يرتفع؛ بل تبقى مادة الخلاف موجودة في المسألة المختلف فيها؛ وذلك لأنه يكون مبنياً على مناطات من النصوص ومقاصد من الشريعة ونحو ذلك، وقد وقع هذا الخلاف في زمن الصحابة رضي الله عنهم، فقد اختلفوا في بعض مسائل المواريث، وفي بعض مسائل الحج، ومن المعلوم أن الخلاف ظل فيها إلى ما بعد عهد الصحابة حتى نقلت مذاهب فيما بعد، فصار لبعض الصحابة مذهب وصار للبعض الآخر ما يخالف ذلك.

إذا كان كذلك فإن الخلاف الفقهي واسع، والخلاف الفقهي في الجملة -وإن كان هذا تعبيراً اصطلاحياً- كأنه يقابله الخلاف المتعلق بالعقائد وأصول الدين، ومعلوم أن باب أصول الدين محكم عند الصحابة وليس فيه مادة للخلاف، ولهذا فإن المخالف فيه هم أهل البدع والأهواء، وأما ما يتعلق بالخلاف الفقهي فإن السبب فيه لا بد من فقهه على وجه من السعة، ومن فَقِه السبب في هذا الخلاف الفقهي وسار على حسن إدراك له عرف مراتب الخلاف.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015