- المعتبر الثاني: البيئة الخاصة:
المقصود بالبيئة الخاصة هنا: البيئة التي تربى فيها هذا المستدل، فإن المستدل يبدأ كطالب علم، ثم يتدرج إلى أن يصبح له شأن، وهكذا سار الناس، إلا من نزل عليه الوحي من الله سبحانه وتعالى وهم الأنبياء.
وما دام أنه نشأ في بيئة فما طبيعة هذه البيئة؟ أحياناً ينشأ بعض الفقهاء في بيئة حنبلية أو شافعية أو حنفية، ويصطبغ بهذه البيئة على طريقة المتأخرين من الأحناف أو الحنابلة أو الشافعية، ويقبل على حفظ مختصراتهم، فيحفظ عند الحنابلة -مثلاً- الإقناع أو المقنع أو غير ذلك، ويعنى بتحصيل المذهب، وتخريج آراء الإمام أحمد الصحيحة، والنظر في الأصول والفروع، وما هو المذهب؟ وما هو الراجح من المذهب؟ وهذا نوع من الفقه، فهذه بيئة نشأ فيها البعض في القديم، واليوم قد ينشأ البعض في بيئة -أي: في تربية- قد لا تعتمد مبدأ المذهب الفقهي؛ بل قد تنطلق من باب العناية بالحديث والدليل والنص والأثر، وهداية الأمة إلى النصوص، وهذا المنهج من حيث الأصل منهج صحيح، لكن إذا بولغ فيه فهو من جنس مبالغة أصحاب التمذهب الفقهي في الالتزام بالمذاهب، ومن المعلوم أن المبالغة والغلو في فهم الآية من القرآن، أو في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنها من أصول الدين، إلا أن الغلو فيها يجعلها بدعة.
ومن أوجه الغلو عند بعض المشتغلين بالحديث مثلاً قولهم: إن أصحاب المذاهب الفقهية ليسوا على شيء، وليسوا من أهل العلم بالسنة، وليسوا متبعين لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وليسوا على طريقة السلف ..
فإن هذا كلام فيه تكلف، وبالمقابل فإن التعصب الفقهي، وافتراض أنه لا تعرف الشريعة إلا بانتظام فقهي معين على طريقة متأخرة، هذا أيضاً فيه إغلاق للعلم.
والبيئة الخاصة ليست خاصة ببيئة معينة، بمعنى أن يقال: إن البيئة الفاضلة هي كذا وكذا؛ بل من نشأ في بيئة شافعية فلا بأس أن يؤسس فقهه على المذهب الشافعي، ومن نشأ في بيئة حنبلية فلا بأس أن يؤسس فقهه على المذهب الحنبلي، وهكذا في المذهب المالكي والحنفي، وهذا ليس كلاماً نفترضه اليوم؛ بل لقد كان يقوله القدماء، فقد كان الإمام مالك ينهى بعض الذين يأتون إلى العراق للحج فيمرون بالمدينة النبوية، كان ينهاهم أن يفتوا ببعض الآراء التي يعرفها مالك لكن العامة من أهل المدينة لا يعرفونها، حتى إنه زجر رجلاً لما بلغه أنه جلس بالمسجد النبوي يجيب بمثل هذا الرأي، فقال له مالك: من أين أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: أين خلفت الأدب؟ فلما قال له الرجل: إن هذا قاله زيد بن ثابت، قال: قد كنا نعلم ذلك، ولكن الناس عندنا لا يعلمون إلا قول عمر.
وليس معنى هذا أن مالكاً يريد أن يطبع التقليد أو التعصب؛ ولذلك فإن من لطيف فقه مالك أنه مرة ذكر له رجل الخلاف، فرأى أن في كلام الرجل تضييقاً للخلاف، فقال له: (يا هذا! هذا رحمة)، فسمى الإمام مالك رحمه الله الخلاف رحمة، ولما سمع رجلاً يوسع في الخلاف قال له: (يا هذا! إنما هو الخطأ والصواب).
فقد يبالغ بعض الناس أحياناً في مسألة (أن الخلاف رحمة)، حتى كأنه ليس أمام الأمة إلا أن تختار الأذوق، أو ليس أمام الإنسان إلا أن يختار بذوقه، فإذا صار الأمر هكذا فإن هذا ليس معناه أنه رحمة؛ بل إن الخلاف فيه حق وباطل، وفيه صواب وخطأ، والخلاف منه راحج ومنه مرجوح، ولا بد من قصد هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن من يضيق المسألة بالمقابل يقال له هذه الكلمة.
إذاً: البيئة الخاصة مؤثرة في تكوين الفقيه.
وليس المنهج الصحيح هنا أن يُلزم بإحدى البيئات الفقهية المعروفة، إنما المنهج الصحيح أن يكون هناك شروط علمية صحيحة للتعامل مع ذلك، فمثلاً: البيئات الفقهية الأربع (المذاهب الفقهية) هذه بيئات معتبرة ولا بأس بها، وكذلك البيئة الأثرية أيضاً هي بيئة معتبرة ولا بأس بها، إنما الذي ينهى عنه الناس هو التعصب، فمن تعصب لشيء من هذه البيئات، فإن هذا التعصب هو الأمر المذموم، أما من نشأ على بيئة مألوفة عند علماء المسلمين وفقهائهم، فإن هذا من حيث هو ليس مشكلاً، ولا يدخل في دائرة الذم والإنكار.