- المعتبر الأول: المجموع العلمي:
ومنه ما يذكره الأصوليون في شروط المجتهد: من جهة سعة علمه باللغة والآثار، والحلال والحرام، والناسخ والمنسوخ ..
إلخ، ويعتبر المجموع العلمي عند المستدل من أكثر المكونات في السببية الخلافية الفقهية، بمعنى: أن المجموع العلمي يؤثر إذا كان المستدل واسع العلم أو قاصر العلم، ومن المعلوم أن علوم الشريعة متعددة؛ كعلم الإسناد وعلم الرواية، وعلم الفقه، وعلم الأصول، وعلم التفسير، وعلم العربية وأوجه كلام العرب ..
ونحو ذلك، بل إن كل علم يشمل علوماً متعددة، فالتفسير مثلاً يوجد فيه علوم منهجية دقيقة، كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وتفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، ونحو ذلك، وكذلك علم الحديث فيه علم المشكل، والمختلف، وشروط صحة الحديث، وشروط ترك العمل بالحديث، ونحو ذلك، فهذه علوم دقيقة داخل علوم -إن صح التعبير- ومثل ذلك أيضاً في الفقه وفي أصول الفقه، وغير ذلك من العلوم المعروفة.
إذا كان كذلك فالمجموع العلمي أمر واسع، ولذلك فإن من كان على كثرة اتصال بكلمات الفقهاء وآرائهم، أو على كثرة اتصال بالرأي، فإنه في الغالب ينتج عنه فقه يناسب ذلك، وهذه سنة ماضية، وقد برزت في الكوفة في صدر التاريخ الإسلامي، ومن كان كثير الاشتغال بالرواية وتصحيح الأسانيد، وبيان الصحيح من الضعيف؛ فإن هذا ربما شغله عن كثير من النظر في الفقه، وقواعد الفقه وأصوله، فيؤثر ذلك في فقهه، ومن غلب عليه العناية بمسألة التقعيد والتأصيل، فإن هذا أيضاً يؤثر في فقهه.
فالمجموع العلمي يؤثر في الفقه، ولو نظرنا إلى الأئمة الأربعة لوجدنا هذا التأثير في فقههم، فنجد أثر الآثار في فقه الإمام أحمد وأجوبته، ونجد أثر الفقه لقواعد الشريعة ومقاصدها، وفقه لسان العرب ودلالات الكلام في كلام الإمام الشافعي، وكذلك ما يتعلق بالاستمساك بالهدي النبوي قبل أن ينتشر الخلاف، هذا اتجاه بين عند الإمام مالك، حتى إنه لما بلغه حديث: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر) قال: أدركنا أهل العلم لا يصومون هذه الأيام ولا يعرفون هذا.
ومن هنا يكون عنده وعند جملة من أولئك الفقهاء في المدينة أن عمل أهل المدينة حجة؛ لأنهم يرون أن هذا هو الهدي المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما توارد أئمة المدينة عليه فإنه في حقيقته متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا وجه من الاستمساك بعمل أهل المدينة.
كذلك نجد أن مسألة الرأي والقياس وما إلى ذلك أثرت في نتائج فقه الإمام أبي حنيفة كما هو بين.
وهذا التأثير للمجموع العلمي في فقه الأئمة يعتبر تأثيراً إيجابياً -إن صح التعبير- وليس معنى ذلك أننا نود أنهم اختفلوا ولم يتفقوا، لكن المقصود أنه منهج علمي مقبول، ولذلك فمن وقع فيما بعد على مثل هذه المعتبرات فكان سبب الخلاف تحت مثل هذه الأسباب، فهذه أحوال يجب أن لا يتصادم بعضها مع بعض، وهذا ليس هو الخلاف المذموم، بل إنه خلاف مقبول، وقد لا نقول: إنه خلاف محمود، فإن هذه الكلمة قد تعني معنى أخص، لكن نقول: إنه خلاف مقبول مادام أنه تحت هذه السببيات.
وبالمقابل فهناك اتفاق بينهم، كما ذكر المصنف أنه لا أحد منهم يرد حديثاً أو يكذب بحديث، لكن هذه الأصول مؤثرة.
وقد يقول قائل: لماذا نعتبر المجموع الكلي؟ هذه أمور نظرية، من حيث الواقع التطبيقي لما انتشر العلم، وانتشرت الرواية، واختلف التفسير لكلام النبي صلى الله عليه وسلم والفقه فيه، أصبح المجموع الكلي فيه تعذر، فلن يأتي اليوم فقيه ونفترض فيه أنه جمع الفقه الكلي، بمعنى: جمع ما يتعلق بمبدأ القياس، مع العلم المطلق بالآثار، مع العلم بالهدي الأول، وما إلى ذلك، فإن هذه افتراضات جيدة من حيث هي، لكنها غير ممكنة التطبيق ففيها تعذر.
ولذلك فإن بقاء التعدد الفقهي بهذه المناهج التي تقصد إلى السنة وهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هذا ليس مشكلة من حيث هو، وقد ذكرنا المجموع لأن له تأثيراً في فقه الفقهاء الأربعة، فقد ذكرنا أن عناية الشافعي بقواعد العربية وفقه الشريعة وأصولها أثرت في فقهه، وأن علم أحمد بالرواية والآثار أثر في فقهه، وأن علم مالك بآثار المدنيين أثر في فقهه، وكذلك علم أبي حنيفة بالقياس ونحوه له أثر في فقهه.
وإذا قيل هذا في حق أولئك الأئمة؛ فإنه يقال اليوم في الذين يفتون أو يجيبون من طلاب العلم أو من الفقهاء أو من قد يسمى بمجتهد الأمة اليوم مثلاً، فإن هذا أيضاً لابد أن يكون المجموع العلمي بيناً في حقه، وليس المقصود بالمجموع العلمي أننا نفترض ضرورة الجمع أو إيجاد مجموع علمي متكامل، فإن هذا -كما ذكرنا- أمر متعذر، لكن لنصل إلى نتيجة، وهي أن افتراض اختصاص عالم اليوم أو فقيه بالنتائج الفقهية الصحيحة، أصدق ما يمكن أن نقول عنه: إنه وهم، مع أن هذه الكلمة قد تكون شديدة بعض الشيء، لكن هذا هو الصحيح، أن هذا فيه قدر من الوهم، وذلك حينما نفترض في فقيه معين اليوم أنه هو المحدث للأمة بالأقوال الصحيحة الراجحة، حتى لو كان هذا الفقيه -مثلاً- إنما رجح شأنه عند قوم لسعة علمه بالآثار، فإن هذه جهة شريفة وجهة عالية لكنها ليست وحدها هي التي تحكم الرأي الفقهي، فهي جهة مؤثرة وجهة كبيرة، كما كانت مؤثرة عند الإمام أحمد، لكن حتى الإمام أحمد يقول: "ما عرفنا الناسخ والمنسوخ إلا عندما جالسنا الشافعي "، وكان الشافعي يقول للإمام أحمد: "إذا صح عندكم الحديث فأخبرني به".
إذاً: فوجود بعض الفقهاء في هذا العصر الذين يمتازون بالرواية أو بالعناية بالصحيح والضعيف، هذه جهة شريفة، لكنها ليست وحدها الحاكمة، فقد يوجد فقيه آخر سأمتن فقهاً في بعض المسائل من ذلك الفقيه المحدث وإن كان ليس بدرجته في علم الحديث، وقد يقال عن بعض الفقهاء أحياناً: هؤلاء لا يعتبر رأيهم؛ لأنه ليس عندهم علم بالحديث، وإطلاق هذه الكلمة بعمومها (ليس عندهم علم بالحديث)، أي: لا يعرفون الحديث مطلقاً، هذا غير صحيح، أما أنهم ليسوا من أهل الاختصاص في الصحيح والضعيف والاشتغال بذلك، فإن هذا موجود، وهذا الكلام موجود من قديم، فإن الإمام أبا حنيفة لم يكن من أهل الاشتغال بهذا الفن، فما دام أنه نتج فقه متميز عن أبي حنيفة مع أنه لم يكن محدثاً بالمعنى الدقيق، فما المانع أن ينتج الفقيه اليوم -ولو من باب التقليد- في كثير من المسائل رأياً جيداً، وإن لم يكن متخصصاً في التصحيح والتضعيف.
وبالمقابل كما أنه نتج عن بعض المحدثين فقه متميز، وإن لم يكونوا من أهل الاشتغال بكثير من أوجه الرأي والقياس ومعاني العربية ونحو ذلك، فلا يوجد هناك مانع من أن ينتج من بعض أصحاب الرواية والاشتغال بالإسناد اليوم فقه متميز.