ذكرنا أن العلماء اتفقوا في الجملة على القياس، وسواء قيل: إن العلماء اتفقوا في الجملة على القياس، أو قيل: إن القائلين به هم الجمهور فقط؛ فإن هذا ليس هو مقصودنا الآن، إنما المقصود: أنهم لما عينوا القياس أو المعينون للقياس -لو فرضنا أنهم الجمهور فقط- يختلفون في درجة حجيته، فهم قد اتفقوا على حجيته لكنهم اختلفوا في درجة حجيته، وهذا الخلاف من أكثر المسببات للخلاف الفقهي.
أن هناك الآثار بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمفهومها الواسع، القياس بمفهومه الواسع، لما تأخذ القياس وآثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم بمفهومها الواسع، وما سلكه بعض المحدثين من اعتبار آثار التابعين؛ لأن بعض المحدثين التزم حتى بآثار التابعين وقدمها على القياس أحياناً، وهذا قد لا يكون له ذلك التبرير في سائر الصور ..
المهم وهذا الاختلاف بين قدماء الفقهاء في درجة الحجية بين هذين الأصلين هو الذي تولد عنه كثير من الخلاف أحياناً، هذا إذا كان الخلاف راجعاً إلى القياس أو إلى أقوال الصحابة.
ولو رجعنا إلى كلام الإمام الشافعي رحمه الله لوجدنا أنه نظر إلى أن الإشكال الذي قد يتطور ليس هو أن هؤلاء يقدمون كثيراً من القياس على كثير من الآثار غير النبوية، أو أن هؤلاء يقدمون كثيراً من آثار الصحابة أو حتى بعض آثار التابعين على كثير من القياس، وفعلاً هذا ليس هو الإشكال، إنما الذي حاول الشافعي أن يطوقه هو فرض التمانع بين القياس وآثار الصحابة أو آثار التابعين، وهذا هو الذي تولد فيما بعد عند مدرسة المتأخرين من الأحناف -مثلاً- الذين زادوا في مسألة القياس زيادةً بينة، قد لا تكون هناك مدرسة فقهية انتظمت؛ لأن أكبر الممثلين لمذهب أهل الحديث هو الإمام أحمد كمذهب فقهي، ومع ذلك فإن المذهب انصبغ بالصبغة الفقهية، لكن ربما يوجد بعض الفروق بين بعض الصور التي جاءت في التاريخ أو في هذا العصر كأحوال لبعض أهل الحديث الذين أرادوا الاستمساك بالنصوص وبآثار الصحابة مباشرة، فصار هناك تباين بين المدرستين، ولذلك فإن ما قصده الإمام الشافعي قديماً ينبغي أن يكون مقصوداً للناس من أهل العلم والنظر والفقه اليوم، وهو أن فرض التمانع بين أقوال الصحابة والقياس ليس منهجاً حكيماً، والمنهج الذي درج عليه عامة السلف من المحدثين والفقهاء هو اعتبار القبول للقياس ولأقوال الصحابة.
لكن متى يقدم القياس على قول الصحابي، أو قول الصحابي على القياس؟ هذه مسألة ليست من المسائل الشائكة المشكلة، ولا بأس أن يقع فيها الخلاف؛ لأنه إذا رجعنا إلى آثار الصحابة أنفسهم وجدنا أن اختلاف الصحابة في الجملة يرجع إلى وجه من القياس، فهذا ألحق المسألة بوجه من القياس فرأى رأياً، والآخر ألحقها بوجه من القياس في الشريعة فرأى رأياً آخر، هذا إذا لم يُلتزم في مسألة القياس بالحد الأصولي المتأخر، ومن المعلوم أنه في المنطق يذكرون قياس الشمول وقياس التمثيل، فإذا أُخذ القياس بمفهومه الواسع فهو يؤثر في أكثر الخلاف حتى عند الصحابة أنفسهم، وإن كان مصطلح القياس لم يكن ظاهراً في ذلك الوقت.