إذاً: من حيث التعيين فإن هذه الأدلة الثلاثة لا جدال فيها، أما من حيث استيعاب النصوص الصريحة لآحاد المسائل، فإن هذا لا يمكن أن يكون متوافقاً على هذا التمام؛ لأنه ليس كل المسائل قد صرحت بها النصوص، ومن هنا ظهرت هناك جهات من الأدلة بدأت من زمن الصحابة، ثم ظهرت كمصطلحات علمية، ومنها: قول الصحابي والقياس، وهذان الأمران هما من أخص ما تعلق به الفقهاء بعد الأصول الثلاثة التي هي: الكتاب، والسنة، والإجماع.
ومن المعلوم أن الفقهاء بعد انتشار الفقه في العراق وغيره صاروا في الجملة أهل اتجاه للأثر -وهو ما اشتغل به المحدثون- أو أهل اتجاه للفقه والرأي -وهو ما اشتهر في الكوفة- فلكثرة اشتغال المحدثين بالسنن والآثار وبآثار الصحابة؛ غلب عليهم التعظيم لأقوال الصحابة بعد الكتاب والسنة والإجماع، فتأثر فقههم أكثر ما تأثر بعد الكتاب والسنة والإجماع بأقوال الصحابة.
أما مدرسة الفقهاء في الكوفة فأكثر ما تأثر فقهها بعد الكتاب والسنة والإجماع بالقياس.
إذاً: من حيث التعيين اتفق أهل الرأي -إن صح التعبير- وأهل الحديث على اعتبار أقوال الصحابة كدليل في الجملة، وعلى اعتبار القياس كدليل في الجملة، فما من فقيه من الكوفيين إلا وهو يعتبر في بعض الصور العمل بما هو من أقوال الصحابة، وما من فقيه من أهل الحديث إلا وهو يعتبر في بعض الصور العمل بما هو من القياس، وإن كان المحدثون ضيقوا القياس، وهم في تضييق القياس درجات، وكذلك أهل الكوفة ضيقوا العمل بالآثار -غير آثار النبي صلى الله عليه وسلم- إلى القياس، وهم أيضاً في ذلك درجات.
ولذلك فإن المصنف يقول هنا -وهذا يذكره حتى المحققون من الأحناف- يقول: "إن أبا حنيفة لم يكن يبطل أقوال الصحابة؛ بل له مسائل أخذ فيها بكلام الصحابة، كما أن أحمد وأمثاله من أهل الحديث لهم أقوال أخذوا فيها بما هو من القياس".
إذاً: هناك ثبوت في تعيين هذين الدليلين.
وهاتان الجهتان -جهة الآثار غير النبوية وهي آثار الصحابة، وجهة القياس- هما أكثر المكونات للرأي الفقهي بعد الأصول الثلاثة، وقد ظهرت بعد ذلك عدة أدلة، منها: عمل أهل المدينة، والمصلحة المرسلة، والاستحسان، وهذه الأدلة هي التي عرفت فيما بعد عند الأصوليين بالأدلة المختلف فيها، وهذا التعبير بأنها مختلف فيها لا بد أن نفقهه على أن الاختلاف لا يلزم أن يكون في التعيين، فقد يتفق العلماء على التعيين، كاتفاقهم في الجملة على الاعتداد بالقياس وبآثار الصحابة، مع أنه من المعلوم أن كثيراً من الكتب الأصولية تحكي مذاهب لا ترى القياس، وتحكي مذاهب لا ترى أقوال الصحابة، وليس معنى هذا أنه لا يوجد هذا الدليل الذي لم يقولوا به.
ولذلك فإن ابن حزم رحمه الله صرح بإبطال القياس، وابن حزم متأخر عن داود بن علي الظاهري رحمه الله إمام المذهب الظاهري، فـ ابن حزم رحمه الله أبطل القياس، ورد كثيراً من قياس الحنفية، وقياس الفقهاء من غير الحنفية، وإذا تعاملنا مع الأمور كمصطلحات فلنا أن نقول: إن من الأصوليين والمتقدمين أيضاً من يبطل القياس ومنهم من يقبله، ومنهم من يأخذ بأقوال الصحابة ومنهم من لا يأخذ بها، لكن إذا جئنا من حيث الواقع العلمي عند هؤلاء وجدنا أن ابن حزم قد استعمل بعض الصور التي هي وجه من القياس، وبنى بعض المحصلات التي هي وجه من القياس، وإن كان المصطلح لا يصدق عليها.
ومن هنا نعلم أن المصطلحات أحياناً تحكم حكاية الخلاف، فـ ابن حزم صرح بإبطال القياس كثيراً، مع أنه عند التطبيق لا ينفك أحياناً عما هو من القياس، هذا مع غلو ابن حزم في ترك القياس، فما بالك بأهل الحديث المتقدمين! صحيح أن هناك تجافياً عند المحدثين عن كثير من الرأي والقياس إلى آثار الصحابة، هذا أمر موجود، لكن إبطال القياس من حيث الماهية لم يوجد، كما أن إبطال آثار الصحابة وفقههم من حيث الماهية لم يوجد.
وأحياناً يذهب بعض الكوفيين إلى أن أقوال آحاد الصحابة ليست حجة، وأن الصحابة إذا اختلفوا فإن الاستدلال بأقوالهم ليس معتبراً، فإن هذا يصل إليه بعض الكوفيين، أما إبطال فقه الصحابة وآثارهم من كل وجه، أو إبطال القياس من كل وجه، فإن هذه صور حكمتها المصطلحات في كتب الأصول المتأخرة.
فإذا قرأت الرسالة للإمام الشافعي رحمه الله وتأملت فيها؛ وجدت أن الشافعي كأنه قصد أن يكتب صيغة توافقية -ولا أقول: وسطية؛ حتى لا يفرض أن غيره ليس وسطاً- قصد أن يكتب صيغة توافقية بين مذهب الكوفيين من الفقهاء ومذهب أهل الحديث؛ ولذلك تجد في الرسالة تأكيداً على الأثر والنص كثيراً، وأيضاً تجد فيها تأكيداً على الفقه، وعلى أوجه كثيرة من القياس، كما أن الشافعي تجافى عن بعض أوجه القياس فشدد في القياس، ولما تكلم عن الإجماع أحكم الإجماع بكلام، وانتقد بعض الصور التي تفرض على أنها إجماع؛ لكنه لم يتخلَّ عن الإجماع مطلقاً، ولم يتخلَّ عن القياس مطلقاً، كما أنه لم يلتزم بالآثار على حساب ترك القياس، وكأن الشافعي رحمه الله أراد أن يقول: لا يوجد هناك تمانع بين القياس وبين آثار الصحابة؛ بل هذا فقه معتبر، وهذا فقه معتبر، وهذا أمر بين فيما كتبه الشافعي في الرسالة، فكأنها طريقة توافقية بين طريقة الكوفيين من أهل الرأي وطريقة أهل الحديث.
ولاسيما أن الشافعي لاحظ -كما هو موجود في تاريخ بغداد وغيره- أن بعض أهل الحديث شددوا في ذم أهل الرأي، وبعض هذا الذم قد لا يكون محققاً، كما أن بعضه قد يكون محققاً حينما يكون الذم بمعنى الدعوة إلى التمسك بالنصوص، فإن هذه أمور بأس بها، وهي من العلم المقبول، لكن أحياناً يزيد الأمر على ذلك، فكأن الشافعي لم يكن راضياً عن بعض هذا الذم، وأراد أن يبين أن الأمر فيه قدر واسع من التقارب، ولهذا يعتبر أصل الذي كتبه الشافعي من أصدق الصيغ العلمية لدراسة فقه الشريعة، سواء ما كتبه في رسالته، أو في المحاورات التي تكلم فيها عن كثير من الفروع في رسالته أو في كتاب الأم، وأقول: فيما كتب الشافعي، وليس بالضرورة أن يكون ذلك في كل ما كتبه الشافعية من بعده ولاسيما المتأخرين منهم، فمن أراد أن يصطبغ بصبغة فقهية متميزة فليقرأ في تأسيسه: الأم والرسالة للإمام الشافعي رحمه الله.
إذاً: هذا من حيث التعيين، أن هناك أدلة يختلفون في تعيينها، وأدلة يتفقون في تعيينها.