والسبب في ضلال هذا الشخص أو في ضلال هذه الطائفة هو أنهم ظنوا أن الإيمان بالقدر -ومنه الإيمان بخلق الله عز وجل- يقتضي ألا يُنسب إلى أحد تأثير بأي وجه من الوجوه, وقد سبق أن بينا أن مراتب القدر أربعة: المرتبة الأولى: العلم الشامل المحيط بكل شيء.
المرتبة الثانية: كتابة الله عز وجل لهذه المقادير.
المرتبة الثالثة: المشيئة النافذة.
المرتبة الرابعة: خلق أفعال العباد.
فهؤلاء عظموا مرتبة خلق الله عز وجل للأشياء إلى درجة أنهم جردوا المخلوق من قدرته ومن تأثيره، فهؤلاء جبرية، لكن مع هذا لم يكونوا من الغلاة الذين اعتقدوا بأن الجبر وعدم نسبة الفعل إلى العبد يقتضي سقوط التكاليف عنه, فالغلاة سبق الحديث عنهم، لكن هؤلاء أقل غلواً، فهم يقومون بالأعمال الواجبة المشهورة، ويتركون الأعمال المحرمة المشهورة، لكن في نفس الوقت يعتقدون أن الأسباب ليس لها تأثير، وبناء على هذا فهم لا يتعاطون الأسباب، فهؤلاء انحرفوا من جهتين: الجهة الأولى: من الجهة النظرية؛ حيث تصوروا أن الأسباب لا تأثير لها البتة.
والجهة الثانية: أن هذه العقيدة الفاسدة أثرت على سلوكهم، لكن ليس تأثيراً تاماً كما هو الحال عند الجبرية الذين أسقطوا التكاليف كلها.
فالفرق بينهما: هو أن الغلاة الذين سبق الحديث عنهم يسقطون التكاليف عموماً، ويقولون: العبد مجبور، والله عز وجل هو الذي خلق هذه الأفعال جميعاً، فليس للعبد مسئولية، وبناء على هذا فعندهم أن الكافر معذور، والمبتدع معذور، والفاسق معذور، والمجرم الذي يقتل الناس بغير حق معذور؛ لأن هذا هو الشيء الذي جبرهم الله عليه! فهؤلاء ضالون، حيث أسقطوا التكاليف عن البشر جميعاً.
وجاءت طائفة أخرى فخففت الغلو وقالت: التكليف يسقط عن طائفة دون أخرى، فالعامة لا يسقط عنهم التكليف، والخاصة يسقط عنهم التكليف.
وجاءت طائفة ثالثة فقالوا: التكليف لا يسقط، فالواجبات المشهورة نؤديها، والمحرمات المشهورة نتركها، لكنهم يعتقدون العقيدة الفاسدة التي أدت بالطائفة الأولى إلى ما توصلت إليه من سقوط التكاليف، وهي أنه ليس هناك تأثير للأسباب.