في هذا الكتاب بعد المقدمة يقول الإمام أحمد: يقول الله عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56]، قالت الزنادقة: فما بال جلودهم التي عصت قد احترقت وأبدلهم جلوداً غيرها؟! فلا نرى إلا أن الله يعذب جلوداً لم تذنب حين يقول: ((بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا))! فشككوا في القرآن وزعموا أنه متناقض، فقلت: إن قول الله تعالى: ((بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا)) ليس يعني: جلوداً غير جلودهم، وإنما يعني: بدلناهم جلوداً غيرها، فتبديلها بمعنى: تجديدها؛ لأن جلودهم إذا نضجت جددها الله؛ وذلك لأن القرآن فيه خاص وعام ووجوه كثيرة وخواطر يعلمها العلماء.
وفي موضع آخر يقول: أما قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97]، وقوله في آية أخرى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:50] فقالوا عنه: كيف يكون من الكلام المحكم قوله: ((وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا))، ثم يقول في موضع آخر: إنه ينادي بعضهم بعضاً؟! فشككوا في القرآن من أجل ذلك.
أما تفسير: ((وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ))، وفي آية أخرى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44]، فإنهم أول ما يدخلون النار يكلم بعضهم بعضاً، وينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، ويقولون: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [إبراهيم:44]، ويقولون أيضاً: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]، فهم يتكلمون، حتى قال الله لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فصاروا عمياً وبكماً وصماً، وينقطع الكلام ويبقى الزفير والشهيق، فهذا تفسير ما شك فيه الزنادقة من قول الله.
وهكذا -أيضاً- في ردوده على الضالين من هؤلاء المبتدعة، ومن ذلك رده على المعتزلة والجهمية، قولهم: إن الله عز وجل يقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، والقرآن شيء فهو مخلوق.
فقال لهم: يقول الله عز وجل: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ))، والله تعالى شيء، وما خلقه من الأشياء شيء، فالله عز وجل ليس مخلوقاً، ومنه الكلام، وكل شيء المقصود به بقية المخلوقات، هذا أولاً.
ثانياً: من أسلوب القرآن استعمال هذا التعبير: (كل شيء)، لكن ليس المراد به التعميم المطلق، وإنما المقصود به هنا ما من شأنه أن يُخلق، مثل قول الله عز وجل: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25]، فمساكنهم لم تدمر، مع أنه قال: (كل شيء)، فالمقصود: كل شيء مما يستحق التدمير، أو مما يراد به التدمير، مثل العصاة والظلمة.
هذا هو كتاب الإمام أحمد رحمه الله (الرد على الزنادقة والجهمية).