بالفيث يصوب فيحيى العباد ثم يعيش الناس في آثاره بعد انقطاعه ومضيه. وقوله كما كان بعد السيل مجراه ارتفع مجراه بكان، وكان الحكم أن يليه فلم يسغ لأن الضمير فيه يرجع إلى السيل وقد تقدم عليه، والإضمار قبل الذكر أو ما يجري مجراه لا يجوز، فامتنع رده إلى رتبته من ولي العامل له، لشيء يرجع إلى الضمير المتصل به لا لشيءٍ يرجع إليه. وتلخيص الكلام: كما كان مجرى السيل مرتعاً بعده.
وقوله ولما مضى معنٌ لما يجئ لوقوع الشيء لوقوع غيره، وهو علمٌ للظرف. فيقول: حين مضى معنٌ لسبيله وانقطعت حياته، فقد الجود وانمحت آثاره، فأصبحت المكارم ذليلةً إذ مات من يربها ويعمرها، كمن جدع أنفه مثلةً وعقوبة، وإرغاماً وإهانة. ويقال في المثل: " منى أنفي وإن كان أجدع ". والعرنين: ما ارتفع من الأنف والأرض، وأوائل الشيء، وأشراف القوم وسادتهم، وكما ضرب المثل بجدع الأنف في الإذلال، ضرب بصلم الأذن فيه لذلك. قال:
فمشوا بآذان النعام المصلم
ماذا أجال وتيرة بن سماك ... من دمع باكيةٍ عليه وباك
ذهب الذي كانت معلقةً به ... حدق العناة وأنفس الهلاك
يقول على وجه التعدب وإكبار الأمر: أي دمع أراقه وتيرة بن سماك من عينٍ باكية عليه وباكٍ. يريد أن المصيبة به أثرت في جماهير الناس وطوائف الخلق، وأنهم لم يملكوا فيما دهمهم إلا البكاء إطفاءً لنار الوجد، وإراحةً من تعب القلب، وماذا يغني العويل، وهو الراحة المطلوبة من البكاء إذا حقت الحقيقة، إلا زيادةٌ في اللوعة وإنجادٌ للمصيبة. وقد تقدم القول في ماذا، وشرحنا أمره.
وقوله: ذهب الذي كانت معلقة به يريد أنه كان يفك الأسراء، وينعش الفقراء، حتى أن من ابتلي بأسرٍ، أو رمي بفقر، فإنه لم يعد لفكه ولم يرج لجبره