احتشامك، وأن أهل المجلس تنازعوا الكلام بعدك وتجاذبوه، حتى صار بعضهم يسب البعض ويصك في وجهه الكلام القبيح، لا رقبة تردعهم، ولا حشمة تدفعهم.
وقوله وتكلموا في أمر كل عظيمةٍ، يريد أن الكلام منهم فيما يدهمهم من النؤب نهبى، لأنهم صاروا سدى لا يبين التابع من المتبوع فيها، ولا الرئيس من المرءوس، حتى صار تدبير العظيمة بينهم فوضى فضاً، يتناهبون إدارة الكلام في دفعها، ويتجاذبون إجالة الرأي في رفعها، ولو كنت حاضرهم ما جسروا أن يتقدموا بين يديك بارتجال خطاب، أو رجع جواب. ويقال: كلمته فما نبس، أي لم يتكلم بحرف، وما سمعت للقول نبسةً ولا زجمة. وقوله استب يقتضي اثنين فصاعداً، وإنما نم بالمجلس، لأن المراد به أهل المجلس، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: " وسل القرية "، وقول العرب: بنو فلان يطؤهم الطريق.
قد مات بالبيضاء من جانب الحمى ... فتى كان زيناً للمواكب وانشرب
تظل بنات العم والخال حوله ... صوادي لا يروين بالبارد العدب
يهلن عليه بالأكف من الثرى ... وما من قلى يحثى عليه من الترب
الحمى: اسمٌ للموضع الذي فيه الماء والكلأ وقد دفع عنه الناس. ويقال: أحميت المكان، إذا جعلته حمىً. وقوله بالبيضاء من جانب الحمى توقيتٌ للمكان الذي وقع فيه الحادثة، وذلك إعظامٌ لخطبها، وتفظيعٌ لشأنها. وقوله كان زيناً للمواكب والشرب يصفه بالرياسة، وأنه كان يزين المواكب خلفه من حيث يستحق التعظيم والتقديم والإتباع؛ لم يرث ذلك فيهم عن كلالةٍ، فهو كما قال الأعشى:
كلٌ سيرضى بأن يلقى له تبعاً
وقوله والشرب يريد أن من نادمه واختلط بأهل مجلسه زانه ذلك ولم يشنه، لما سلم له من الاعتلاء والفضل، والسابقة في الرياسة والطول.