وجنود الموت والفناء متسلطة على طوائفهم، تخترم الواحد بعد الواحد منهم بلا حياءٍ ولا رقبةٍ، ولا استبقاء ولا رعة، وقد رضوا بحكمه وأخذه، واختياره وقسمه، فعسفه عندهم رفق، وبطشه رحمةٌ وعدل، يرون فرق أحيائهم على مرور الأيام إلى تراجعٍ وتناقص، ومصير مصانعهم ومساكنهم قريباً إلى البلى والتعطل، ويجدون عدد الأموات إلى تزايدٍ وتكاثر، ومقابرهم إلى عمارةٍ وتوافر. هذا وقد التزموا ما يجري عليهم التزاماً، لا سخط فيهم ولا إنكار، ولا كراهة ولا ملال؛ فلا المجاورة بين الفريقين تنقطع، ولا المهاجرة ترتفع، ولا الأحوال تتبدل، ولا العادة في جميعها تتغير؛ ففي كل قبيلةٍ حدوث مصيبةٍ، ونزول بليل؛ وفي كل مجمعةٍ تأثير فجيعةٍ، ونكاية منية. فبماذا نستمسك ونعتصم من الفناء، وعلى ماذا نعول ونعتمد في الرخاء، وكيف رضينا بتدانٍ يبطله فناء، وتجاورٍ بني على تدابر، وأتى يستقيم البناء والتشييد، لمن ملكه النفاد والتشتيت، ومتى يحصل السلو لمن هو مرتهنٌ بتجديد الفقود.
لا يبعد الله إخواناً لنا ذهبوا ... أفناهم حدثان الدهر والأبد
نمدهم كل يومٍ من بقيتنا ... ولا يؤوب إلينا منهم أحد
معنى لا يبعد الله لا يهلك الله. يقال بعد الرجل إذا هلك. فإن قيل: كيف قال لا يبعد اله وقد عقبه بقوله أفناهم حدثان الدهر والأبد، وهل الهلاك إلا الفناء؟ قلت: هذه اللفظة جرت العادة في استعمالها عند المصائب، وليس فيه طلبٌ ولا سؤال، وإنما هو تنبيهٌ على شدة الحاجة إلى المفقود، وتناهي الجزع في الفجع به. ألا ترى أن الآخر قال:
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا
وأشار بقوله حدثان الدهر إلى النوائب والنكبات، وبقوله الأبد إلى نفس الدهر؛ لأن من سلم من الآفات أداه مرور الأيام والليالي إلى الفناء والهرم. أما سمعت قول القائل:
ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ... ليصحني فإذا السلامة داء