الدهر كما يعطى يرتجع. وكما يولى ينتزع، فغيره لا تؤمن، وأحداثه على حالة واحدة لا تقف.
نعى لي أبا المقدام فاسود منظري ... من الأرض واستكت على المسامع
وأقبل ماء العين من كل زفرةٍ ... إذا وردت لم تسطعها الأضالع
يقول: خبر الناعي بموت أبي المقدام فدير بي، وأصبحت الدنيا مظلمةً في عيني، وأورث خبره صمماً في أذني، فلا الأذن تأذن للكلام على ما كانت تعمل، ولا العين تدرك المرئيات إدراكها من قبل، كل ذلك لتأثير نعيه في الحواس التي هي طرق العلوم وتبين المشاهدات. وبعد ذلك أقبل الدمع يسيل في إثر زفراتٍ اتصلت وتعاقبت، وكل واحدةٍ منها لامتلاء الصدر بها كادت الضلوع تستقيم لورودها. والزفرة: أن يتردد النفس في الصدر ثم يمتلىء منه ويزفر به، أي يرمى. وقد أومأ أبو تمام إلى هذا المعنى وإن يصرح تصريحه في قوله:
وما للدار إلا كل سمحٍ ... بأدمعه وأضلعه سخى
فأما أبو عبادة ففي قوله:
ووراءهم صعداء أنفاسٍ إذا ... ذكر الفراق أقمن عوج الأضلع
قد بالغ في الإبانة كل المبالغة. وقوله استكت على المسامع فالمسامع: جمع المسمع بكسر الميم، وهو الأذن. والمسمع، بفتح الميم: موضع السماع وقوله استكت من قولهم بئر سكوكٌ، إذا كانت ضيقة الخرق. فإذا أريد الصمم وقيل استكت أذنه فحيقتة ضاق صماخا، وهو الخرق الباطن المفضى إلى الرأس.
وقال آخر:
قد كان قبلك أقوامٌ فجعت بهم ... خلى لنا هلكهم سمعاً وأبصارا
أنت الذي لم يدع سمعاً ولا بصرا ... إلا شفاً فأمر العيش إمرارا