لكنت كمهر بق الذي في سقائه ... لرقراق آلٍ فوق رابيةٍ صلد
نبه بهذا الكلام على قرب القرابة بينهم، وتأكد الالتحام فيهم، وأن تمازج الأنساب، وتواشج الأسباب، يوجبان أن طوائف هؤلاء الجموع كطوائف تلك، فإن أخذ يطلب الخروج عليهم، والنكاية فيهم، احتاج أن يخرج بقيسٍ على قيس، وبسعدٍ على سعد، لأن عوفاً هو ابن سعد. واحتاج أن يراغم عمراً والرباب ودارماً ووداً، وأن يضيع حظوظهم وحقوقهم، وبفيت نفسه وذويه مأمول الخير من جهتهم، والتكثر والتعزز بمكانهم، وذلك أيسر نتائج التقاطع والتدابر، والتنازع والتنابذ، والتجاذب والتحارب؛ هذا إلى ما فيه من مجانبة الرشاد، والتباعد في طرق الضلال والفساد. وقوله كيف أصبر عن ود هو الذي يسميه النقاد والبصراء بصنة الشعر وتمييز البديع فيه الالتفات. كأنه لما ذكر وداص والخلاف عليه، ونفض اليد مما يجمعه وإياه، وكشف الرأس بالمعاداة معه، رق للرحم قلبه، وضاق بالحال المتصورة صدره، والتفت إلى من بحضرته فقال: كيف يكون صبري عن مثله. ثم أخذ يمثل نفسه فيما يأتيه، ويصور نفسه إن أخذ فيه، فقال: لعمري إن صورتي إذا ركبت هذه الخطة معهم، ومثلي فيما أختاره من مفاسدة الأقارب مع هذا التحقق والتداني، والاستنامة إلى آمالٍ متخليةٍ في الأجانب، مثل رجل قد أعد ماء فمه لوقت حاجته، وهو في مفازةٍ متنائية الأرجاء، فترقرق له السراب من مكان يتوصل إليه بمشقةٍ تتكلف، وزيادة تعبٍ تتجشم، فصب ما قد استصحبه من الماء، وتيقن النجاة به، اغتراراً بما تراءى له وتظناه، وهو لا يدري هل يقدر على الوصول إليه، وإذا جاءه هل يجد له حقيقة أو لا. وقد ضرب الله المثل بالسراب لأعمال الكفار واغترارهم بها فقال: " كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ". والرابية: المكان المرتفع. والصلد: الصلب الذي لا ينبت شيئاً. والرقراق: ما ترقرق فيما يتخيل للعين ولمع، ويوصف به الدمع والماء والجارية الرائقة. يدل على ذلك قوله:
رقاق لا زرق العيون ولا رمدا
ولامرئ القيس يصف الدمع:
أو الدر رقراقه المنحدر