يقول: مكاني الذي أسير فيه من البلاد، وموضعي الذي أنزل فيه، لا بعد المنازل، وأوضع المساير، إذا لم يلحقني فيها تقريبٌ وتعظيم. وقوله " أقرب " بمعنى أكرم وأدنى، على طريق الإعظام. وليس يريد تقريب المسافة به. ويجوز أن يكون المعنى إذا لم أقرب كنت بمنزلة المطرود المنفي، وإن كنت مقيما دانياً. وكان الواجب أن يقول لبالمنزل والمسير؛ فاكتفي بأحدهما. وآثر المنزل بالذكر لأن النزول لا يكون إلا بعد السير. ودل بهذا الكلام على أنه لا يرضى في متصرفاته إلا بما يقضي بتبجيله، ويفضى إلى اصطفائه والرفع منه؛ وأنه لا يصبر على الهوان والجفاء حيث سار ونزل، بل يطلب إكرامه وإلا انتقل وتحول.
ولست وإن قربت يوماً ببائع ... خلاقي ولا قومي ابتغاء التحبب
يقول: لست وإن أدنيت وبجلت ببائع نصيبي من شرفي، وموضعي من عشيرتي، طلباً للتحبب على من أجاوره وأعاشره، أو تهالكا في تعليق الطمع بمن أرجوه وآمله. والخلاق: الحظ والنصيب من الصلاح. ويقال: ما لفلانٍ خلاقٌ، إذا لم يكن له رغبةٌ في الاستصلاح واكتساب الخير. وانتصب " ابتغاء التحبب " على أنه مفعولٌ له.
ويعتده قومٌ كثير تجارةً ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي
يقول: ويعد ما تبرأت منه وأنفت من فعله كثيرٌ من الناس تجارةً رابحة، وصفقةً مفيدة نافعةً، وأنا يدفعني عنه ويزهدني فيه شرفي وديانتي. وهذا القول يجوز أن يكون تنزيها لنفسه، وتزكية لفعاله وخلقه فقط، وأن يكون القصد منه التعريض بغيره. وهذه الأبيات وإن كان في جملتها ما ليس من الباب فإنه كره تبديدها لسلامتها من العاب، ووفور حظها من الانتخاب.
دعاني يزيدٌ بعد ما ساء ظنه ... وعبسٌ وقد كانا على حد منكب
ما قدمه توصلٌ إلى بيان مراعاته أمر العشيرة، والتعطف على القريب وقت الحاجة، والتمسك بما يوجبه الكرم والحرية. يقول: دعاني هذا الرجل وصاحبه مستغيثين، بعد سوء ظنه بعشيرته وبي لما أسلف من الشر، وقدم من العقوق والإيذاء، وقد كانا أشرفا على حد الهلاك. هذا إذا رويت بفتح الكاف منكب، والمعنى: شافها حد الشر وحرفه، ولا يأمنان اقتحامه وتوسطه. ويقال صابه نكبٌ من الدهر ومنكبٌ ونكبةٌ ونكوبٌ كثيرةٌ، ومنه قيل حافرٌ نكيبٌ ومنكوبٌ، إذا أثر فيه