وقوله أتهزأ مني أن سمنت أي لأن سمنت ولأن ترى بوجهي شحوب الحق. وأضاف الشحوب إلى الحق لأن سببه كان توفره على إقامة الحقوق وأدائها في وجوهها. وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنى مناسبة بينهما، فكأنه قال الشحوب الذي كان سببه توفري علة الحق، وتوفيري الأزواد على طلابها. وقوله والحق جاهد يريد القيام بالحق في الشدائدوأدائه يجهد النفوس ويغير الألوان وينضي الأبدان.
وقوله أقسم أراد قوت جسمي وطعمته، لأني أوثر به الغير على نفسي وأجتزىء بحسو الماء القراح، وهو البحت الذي لا يخالطه شيء من اللبن وغيره، والماء بارد، أي والشتاء شات والبرد متناه. وقال بعضهم: المهزول يجد برد الماء أكثر مما يجده السمين. وأنشد:
عافت الماء في الشتاء فقلنا ... بل رديه تصادفيه سخينا
أي سمنت فرديه تصادفي حاراً ما صادفته بارداً. قال: ويدل على انه كنى عن الهزال ببرد الماء قوله:
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى ... بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
وقال آخر:
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى ... وكل غنى في القلوب جليل
وليس الغنى إلا غنى زين الفتى ... عشية يقرى او غداة ينيل
يقول: لما استغنيت عظمت في عيون الناس فأجلوا قدرك ورفعوا مكانتك، وكذا الأغنياء مواقعهم من النفوس عظيمة، ومحالهم في الأفئدة والقلوب جليلة رفيعة، وأقدارهم موقوفة على سعة أحوالهم، ومردودة إلى مقادير قدرهم، لكن الغنى المحمود المتفق على فضله عند التحصيل هو ما يزين الفتى فلا يشينه، ويكسب له الحمد والذخر فلا يذيمه، عشية ينزل الأضياف فيكرم مثواهم، أو غداة ينيل العفاة ويوسع في فنائه مأواهم.