[وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم: بل الجهمية داخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، وجعلوا أصول البدع خمسة، فعلى قول هؤلاء: يكون كل طائفة من المبتدعة الخمسة اثنا عشر فرقة، وعلى قول الأولين: يكون كل طائفة من المبتدعة الأربعة ثمانية عشر فرقة].
والصواب: أنه ليس بين كلام السلف تعارض، لأن الجهمية ليست طائفة محددة بحدود يمتنع أن تزيد أو تنقص عنها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ...) ..
(آية المنافق ثلاث ...) ثم قال: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم) ومع ذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يفهمون أن النفاق ليس على درجة واحدة؛ ولهذا إذا أخطأ المخطئ في أمر على قدر من الاستغراب قام واحد من الصحابة وتكلم عن صحابي آخر وقال: "يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق" أو "نافق فلان".
وما كان عليه الصلاة والسلام يراجع في كثير من هذه الاستعمالات؛ لأن مبدأ النفاق له زيادة وله نقص.
إذاً التجهم ليس مقاماً واحداً، وليس بين السلف خلاف، وإنما الخلاف حرره والتزمه المتأخرون، فصار بعضهم يقول بكفر سواد الجهمية، وإذا قيل له: من هم الجهمية؟ تعذر عليه ضبطهم، إلا إذا التزم أن كل من عارض في الصفات يكون جهمياً، وكل من تأول في الصفات يكون جهمياً، ومن هنا يكفر جميع هؤلاء، فهذا هو الذي التزمه بعض من عنده زيادة من الحنابلة رحمهم الله كـ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي، فإنه قال: إن ابن المبارك كفر الجهمية، وقال: والجهمية عند السلف هم من يعطل الصفات والأفعال، فلما تكلم عن الأشاعرة -الذين ما أدركوا ابن المبارك أصلاً- ووجد أن عندهم تعطيلاً في الصفات من جنس بل على حروف المعتزلة في صفات الأفعال وفي بعض الصفات الأخرى، كانت النتيجة عند الهروي رحمه الله أنه كفر الأشعرية، من باب دخولهم جميعاً في دائرة التعطيل، الذي هو التجهم عند السلف ..
ومثل هذه التحصيلات فيها تأخر، وليست مطردة على هذا الوجه من الصحة.