قد يقول قائل: أرأيت لو فصَّل شخص من المعروفين بالسنة تعطيل الصفات، والتزم هذا التفصيل على الاطراد من جنس تفصيل المعتزلة، ولكنه في باب الإيمان والقدر ومسائل أخرى على مذهب السلف ..
أين نجعله؟
أي: أن شخصاً من الأعيان يقول بقول المعتزلة على التمام في نفي الصفات، وينتسب للمعتزلة، ويأخذ أقوالهم، ويدع أقوال السلف، وينكر القول بأن القرآن ليس بمخلوق ..
إلخ، لكنه في باب الإيمان والقدر وبعض الأصول الباقية على تقرير السلف ..
هل نأخذه بالأصل الأول أو نأخذه بالأصول الثانية؟
نقول: أولاً: هذه الفروضات هي التي أشكلت وعقَّدت المسائل العلمية، وسببت قدراً واسعاً من الإرباك.
ثانياً: أن هذا لا وجود له، فلا يوجد عالم أو ناظر حقق قول المعتزلة في الصفات والتزمه، وأنكر قول السلف مجملاً ومفصلاً حرفاً ومعنى، ومع ذلك إذا جاء للإيمان انتصر لقول السلف وأنكر أقوال أهل البدع، وإذا جاء للقدر انتصر للسلف ..
إلخ، ولهذا من ينتحل أصلاً من أصول أهل البدع المغلظة وينتصر له حرفاً ومعنىً لا يمكن أن يكون من أهل السنة والجماعة.
قد يقول قائل: من مثالات ذلك ابن حزم.
نقول: ابن حزم رحمه الله وإن كان عنده تعطيل في الصفات، ومشاركة للمعتزلة في كثير من كلامه كما هو معروف في كتابه الفصل وغيره، إلا أن حروف ابن حزم -حتى في الصفات- في الجملة حروف أهل السنة، وإن كان تكلم في لفظة الصفة وقال: "إنه لا أصل له كلفظة"، وإنما قال: يسمى فعلاً لله ..
إلخ، ومع هذا هو لا يلتزم هذا التقرير، وهذه إشكالية واضحة عند ابن حزم، فهو قد أنكر حرف الصفة كحرف مضاف إلى الله، ثم في مقامات أخرى هو استعمل هذه الإضافة فقال: ومن صفات الله كذا.
فـ ابن حزم من جهة الحروف في الجملة على حروف أهل السنة، أي: من جهة المعاني الكلية في الجملة على معاني أهل السنة، وهو -كذلك- من جهة المقامات التي شاع فيها القول كالعلو والقول بخلق القرآن ..
إلخ ينتصر لصريح مذهب أهل السنة، وينكر على المعتزلة القول بخلق القرآن وما إلى ذلك، لكن عنده قدر ليس يسيراً، بل قدر كبير من المعاني من جنس معاني المعتزلة اختلطت عليه وانعقدت عليه رحمه الله.
لكن الذي تكلمنا في نفيه: أن يكون واحد من الأعيان يلتزم مذهب المعتزلة التزاماً صرفاً، التزاماً ظاهراً وباطناً -أي: في الحرف والمعنى- فإن هذا لا وجود له، وهذا هو معنى قول المصنف رحمه الله: "أن من غلط وعرض له الغلط في بعض المسائل، وهو في جمهور أمره على السنة فهذا لا يخرج" ويكون خطأه هذا في الجملة من باب الخطأ المغفور، فإن مثل هذا الخطأ لا يصدر عن تفريط، وإنما علم هذا لكونه في جمهور حاله على السنة والجماعة.
والشاهد هنا: أن القاعدة: أن من قال قولاً بدعةً لا يلزم أن يكون مبتدعاً ..
هذه قاعدة قطعية منضبطة، بل قال شيخ الإسلام في المجلد التاسع عشر: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، لكن لم يقم عندهم الحجة الرسالية في مفارقة ما قالوه أو فعلوه للسنة والهدي".
وهذا المعنى لابد من ضبطه في مسألة التبديع وما يتعلق بها، فإن كثيراً من الأعيان من أصحاب السنة والجماعة عرضت لهم أقوال بدعية -ولا سيما بعد طبقة الأئمة من القرون الثلاثة الفاضلة- ومقالات شاركوا فيها بعض أهل البدع، ودخلت عليهم من أصحابها، فهؤلاء لا يضافون إلى أهل البدع، وإنما يضافون إلى أهل السنة والجماعة.
فلا بد أن تحقق هذه القاعدة، وهي: أن الاشتراك في الحرف لا يستلزم الاشتراك في المعنى، والاشتراك في مجمل المعنى لا يستلزم الاشتراك في مفصله، وقد تم توضيح هذا في شرح كتاب الإيمان لـ أبي عبيد، فقد بينا أن القول بأن الإيمان قول واعتقاد اشترك فيه كثير من مرجئة الفقهاء والمرجئة المتكلمون، أي: حصل اشتراك بين بينهم في مجمل المعنى ومجمل الحرف، لكن لا يلزم منه أن مفصل المعاني كذلك.
كذلك بعض رجال الرواية والإسناد قالوا: إن أفعال العباد ليست مخلوقة.
حتى قال الإمام أحمد: "لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة" وهذا الأصل قد قرره أئمة البدع من المعتزلة.
فاشتراك المعتزلة وهؤلاء الرواة في أن أفعال العباد ليست مخلوقة، نقول فيه: هو اشتراك في مجمل المعنى وليس في مفصله؛ ولهذا قول المعتزلة في هذه المسألة أغلظ وأشنع من قول هؤلاء ..
وهكذا.