[وأما المرجئة فليسوا من هذه البدع المعظلة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة].
كـ حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وأمثالهما.
[وما كانوا يعدون إلا من أهل السنة، حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة].
أي: المرجئة الفقهاء لم يعدوا عند الأئمة إلا من أهل السنة والجماعة.
[ولما كان قد نسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متبَعون، تكلم أئمة السنة المشاهير في ذم المرجئة والمفضلة تنفيراً عن مقالتهم، كقول سفيان الثوري: "من قدم علياً على أبي بكر والشيخين فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ وما أرى يصعد له إلى الله عمل مع ذلك أو نحو هذا القول.
قاله لما نسب إلى تقديم علي بعض أئمة الكوفيين، وكذلك قول أيوب السختياني: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار.
قاله لما بلغه ذلك عن بعض الكوفيين، وقد روي أنه رجع عن ذلك].
"إلى الإرجاء" أي: إلى القول بأن الأعمال ليست داخلة في اسم الإيمان.
"والتفضيل": أي: تفضيل علي على أبي بكر وعمر.
والمقصود بالشيخين: عمر وعثمان، وهذه المسألة -تفضيل علي على عثمان - الصواب فيها: أنها اجتهاد، وإن كان الصحيح فيها، وهو الذي عليه جمهور الأئمة، واستقر عليه أمر أهل السنة: أن عثمان أفضل من علي، لكن من نازع في ذلك فإنما نازع في اجتهاد، والإمام أحمد رحمه الله يرى أن المنازع في ذلك ليس صاحب بدعة، بل قوله اجتهاد، كما ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الواسطية وغيرها.
إذاً: المسألة المحكمة: هي تقديم أبي بكر وعمر على غيرهم، أما التفضيل لـ علي على عثمان فهذه مسألة في أصلها كانت مسألة نزاع بين أهل السنة، والذي عليه جمهورهم التفضيل لـ عثمان، وهو الذي استقر عليه أمرهم، لكن المسألة ليس فيها محكم وقاطع.
إذاً: نقول: من قدم علياً على أبي بكر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، ومن قدم علياً على عمر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، لكن من قدم علياً على عثمان في التفضيل هل نقول أنه أزرى بالمهاجرين والأنصار؟ لا يلزم هذا، وقد يستدل قائل هذا بأن عبد الرحمن بن عوف لما استشار الناس بين عثمان وعلي في الخلافة قدم المهاجرين والأنصار عثمان.
نقول: أولاً: هذا ليس بلازم؛ لأن هذا كان في الخلافة والمسألة هنا مسألة تفضيل؛ ولا تلازم بين التفضيل والخلافة؛ والدليل على أنه لا تلازم بينهما: أنه لو كان يلزم أن الفاضل هو الخليفة لم يجعل عمر الخلافة في ستة، ولحسمها في واحد؛ إلا أن يكون عمر ليس عنده وضوح وانضباط في أي هؤلاء الستة هو الفاضل، فإذا رجعنا إلى ذلك فهذا أيضاً لا بأس به، معناه: أنه ليس هناك اطراد عند الصحابة في تقديم عثمان على علي.
ثانياً: أن من الستة الذين جعل عليهم عمر مدار الخلافة من أسقط حقه لـ عثمان، ومنهم من أسقط حقه لـ علي، فهذا الذي أسقط حقه لـ علي قدم علياً، فهل نقول: إنه خرج إلى البدعة؟ هذا ليس بصحيح؛ فإن المسألة مسألة اجتهاد.
وإذا قيل: ما الصواب؟
قيل: الصواب الذي عليه جمهور أهل السنة، واستقر عليه أمرهم: التقديم لـ عثمان ..
هذا في الفضيلة؛ وأما في الخلافة فلا شك -وهذا مجمع عليه- أن عثمان قبل علي.
إذاً: الصواب: أن المسألة ليست من القطعيات، بل هي مسألة اجتهاد؛ لأنه لم يقدم جميع المهاجرين والأنصار عثمان على علي، فإن منهم من أسقط حقه لـ علي ابتداءً.
وكذلك عمر جعلها في الستة؛ مما يدل على قدر من التردد والتساوي عنده، ثم إن عبد الرحمن بن عوف إنما اعتبر الأمر بالغلبة وليس بالضرورة بجميع الأعيان.
[وكذلك قول الثوري ومالك والشافعي وغيرهم في ذم المرجئة لما نسب إلى الإرجاء بعض المشهورين].
يقصد بذلك بعض الفقهاء من أهل الكوفة.
[وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جارٍ على كلام من تقدم من أئمة الهدى، ليس له قول ابتدعه، ولكن أظهر السنة وبينها، وذب عنها وبين حال مخالفيها وجاهد عليها، وصبر على الأذى فيها لما أُظهرت الأهواء والبدع؛ وقد قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين، فلما قام بذلك قرنت باسمه من الإمامة في السنة ما شهر به وصار متبوعاً لمن بعده، كما كان تابعاً لمن قبله].
فليس له اختصاص لا هو ولا غيره؛ فإن السنة اللازمة هي ما انضبط في كتاب الله وسنة نبيه وأجمع عليه السلف، أما أقوال آحادهم -كـ أحمد أو غيره ممن كان قبله أو بعده- فهذا ليس من السنة اللازمة، إلا إذا كان قوله على هدي إجماع أو انضباط عن من سلف؛ وإنما أشير إلى الإمام أحمد كثيراً لما قارن حاله من الانتصار للسنة والرد على أهل البدع، وإلا فجميع الأئمة الأربعة وأمثالهم هم من أئمة السنة والجماعة ولا جدل في ذلك.