قلت الناسخ في الحقيقة إنما هو الله تعالى؛ ولذلك قال الله تعالى: «ما ننسخ من آية» (?) فأضاف تعالى فعل النسخ غليه، وفعله تعالى هو هذه المدارك وجعلها ناسخة، فالمصدر في التحقيق هو هذه الأمور المدارك فاندفع السؤال، وقولي مع تراخيه عنه لأنه لو قال افعلوا لا تفعلوا لتهافت الخطاب، وأسقط الثاين الأوّل، وكذلك لو قال عند الأوّل هو منسوخ عنكم بعد سنة، كان هذا الوجوب مُغيَّا بتلك الغاية من السَّنة فلا يتحقق النسخ، بل ينتهي بوصوله لغايته، وحينئذ يتعين أن يكون الناسخ مسكوتاً عنه في ابتداء الحكم. وقولي: على وجه لولاء لكان ثابتاً، احتراز مِمّا يجعل له غاية أول الأمر، فإنه لا يكون ثابتاً إذا وصل إلى تلك الغاية، فلا يقبل النسخ إلاّ إذا كان قابلاً للثبوت ظاهراً.
وقال القاضي منا، والغزالي الحكم المتأخر يزيل المتقدم. وقال الإمام والأستاذ وجماعة هو بيان لانتهاء مدة الحكم - وهو الحق - لأنه لو كان دائماً في نفس الأمر لعلمه الله تعالى دائماً، فكان يستحيل نسخه، لاستحالة انقلاب العلم، وكذلك الكلام القديم الذي هو خبر عنه.
قال القاضي: النسخ كالفسخ، فكما أن الإجازة إذا كانت شهراً يستحيل فسخها إذا انقضى الشهر، ويمكن فسخها في أثناء الشهر، لأن شأنها أن تدوم، فكذلك النسخ لا يكون إلاّ فيما شأنه أن يدوم، والجماعة يمنعون هذا التشبيه، ويقولون إن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، فلو كان الحكم دائماً في نفس الأمر لعلم دوامه، ولو علم دوامه لتعذر نسخه، فإن خلاف المعلوم محال في حقنا، فكيف في العلم القديم، وكذلك كلّ ما علمه الله تعالى فهو مخبر عنه بالكلام النفساني، وخبر الله تعالى صدق يستحيل الخلف فيه، فلو أخبر عن دوامه تعذر نسخه، وكذلك لو شرعه دائماً لكان تعالى قد أراد دوامه لأنه من جملة الكائنات، ولو أراد دوامه لوجب الدوام، وحينئذ يتعذر النسخ، ولو وقع النسخ لزم مخالفة ثلاث صفات لله تعالى، وذلك محال.