أنكر اليهود -قبحهم الله- النسخ وقالوا: إنه غير ممكن؛ لأنه يلزم منه نسبة الجهل إلى الله تعالى، وأن الله كان جاهلاً ثم علم، وإلا فلماذا ينسخ؟! فاعترضوا على الله، وقالوا: لا ينسخ إلا الجاهل الذي لا يعلم، وأما العالم فلا يحتاج إلى النسخ، بل يشرع من أول الأمر ولا ينسخ؛ لأنه عالم بالعواقب، فقالوا: يلزم منه البداء على الله، وهذا من جهلهم وضلالهم وإنكارهم لآيات الله، فالله تعالى ينسخ لحكمة، وهو يعلم بأحوال عباده.
فالشرائع من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم تختلف، فقد كان في شريعة آدم أن الأخ يتزوج أخته، لكن من البطن الآخر، فكانت حواء تأتي بذكر وأنثى في كل حمل، فهذان الذكر والأنثى اللذان يكونان في بطن واحد أخوان يحرم عليهما أن يتزوج أحدهما الآخر، لكن يجوز له أن يتزوج من بطن آخر؛ حتى يكثر الناس، ثم حرم الله الزواج بالأخت، وفي شريعة يعقوب عليه الصلاة والسلام كان يجوز الجمع بين الأختين، وفي شريعة التوراة: يجب على القاتل القصاص، وفي شريعة الإنجيل تجب الدية، ولهذا جاء في شريعة الإنجيل: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، وفي شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم -التي هي أكمل الشرائع- يخير أولياء القتيل بين القصاص وبين العفو إلى الدية وبين العفو مجاناً، فأحوال الناس تختلف من عصر إلى عصر، فالله تعالى يشرع لعباده ما يناسب حالهم ثم ينسخ ذلك؛ لما يعلمه من المصلحة لهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: فتأويل الآية: ألم تعلم -يا محمد- أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذ أشاء، وأقر فيهما ما أشاء.
ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطاباً من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة السلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة، فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
قلت: الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حل بعضها، وكان نكاح الأختين مباحاً لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم رفع عنهم القتل؛ كيلا يستأصلهم القتل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه، وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية فلا يصرف الدلالة في المعنى؛ إذ هو المقصود، وكما في كتبهم مشهوراً من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه فإنه يفيد وجوب متابعته عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته، وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مغياة إلى بعثته عليه الصلاة والسلام، فلا يسمى ذلك نسخاً لقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187]].
قوله: [مغياة]، أي: غايتها ونهايتها أن يعمل بها إلى بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين؛ لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهداً بالله تبارك وتعالى، ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ رداً على اليهود -عليهم لعنة الله- حيث قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:106 - 107]، فكما أن له الملك بلا منازع، فكذلك له الحكم بما يشاء: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54].
وقرر في سورة آل عمران التي نزل صدرها خطاباً مع أهل الكتاب وقوع النسخ في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِه} [آل عمران:93] الآية، كما سيأتي تفسيره].
وهذا مثال للنسخ إلى الأثقل.