قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:106 - 107]، يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء].
هذا مبني على الحكمة البالغة، فهو يوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويحيي من يشاء، ويميت من يشاء، لما له من الحكمة البالغة، والله سبحانه وتعالى يفعل لحكمة، ويخلق لحكمة، ويأمر لحكمة، وينهى لحكمة، وهو الحكيم الخبير سبحانه وتعالى، {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [يوسف:6]، وهذا خلاف لأهل البدع من الأشاعرة وغيرهم الذين أنكروا الحكمة، وقالوا: إنه يفعل لمجرد المشيئة، فالجبرية من الأشاعرة يقولون: لا توجد حكمة، فهو يفعل لمجرد الإرادة فقط، وقالوا: إن المشيئة لله تخبط خبط عشواء، فهي تجمع بين المختلفات وتفرق بين المتماثلات، فلا توجد حكمة، بل يفعل بالإرادة، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا من أبطل الباطل، فالله تعالى أفعاله مبنية على الحكمة، وأوامره مبنية على الحكمة، وخلقه مبني على الحكمة، فهو يخلق لحكمة، ويؤمر لحكمة، وينهى لحكمة.
قال ابن جرير الطبري: وأولى القراءات في قوله: (أو ننسها) بالصواب من قرأ (أو ننسها) بمعنى (نتركها)؛ لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدل حكماً أو غيره، أو لم يبدله ولم يغيره فهو آتيه بخير منه أو بمثله، فالذي هو أولى بالآية -إذا كان ذلك معناها- أن يكون إذا قدم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعضد ذلك بالخبر عما هو صانع إذ هو لم يبدل ذلك ولم يغير، فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: (ما ننسخ من آية) قوله: أو نترك نسخها؛ إذ كان ذلك المعروف لجعله كلام الناس، مع أن ذلك إذا قرء كذلك بالمعنى الذي وصفت فهو يشتمل على معنى الإنشاء الذي هو بمعنى الترك، ومعنى النساء الذي هو بمعنى التأخير].
قراءة حفص: (أو ننسها)؛ فيها معنى (ننسيها) وفيها معنى النسيئة، أي: (نؤخرها) فتشمل الأمرين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره، واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا، وفي هذا المقام رد عظيم، وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم الله- في دعوى استحالة النسخ إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكاً].