قال الله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:90].
قال المصنف رحمه الله: قال مجاهد: ((بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ)) يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه.
قوله: شروا الحق، بمعنى: باعوه، مثل قوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف:20] أي: باعوه بثمن بخس، والمراد بالشراء الاعتياض.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال السدي: ((بِئْسَمَا اشْتَرَوْا)) يقول: باعوا به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم عن تصديقه وموازرته ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية بأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، ولا حسد أعظم من هذا.
قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة وسعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة:90] أي: أن الله جعله من غيرهم، {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة:90]].
قال ابن عباس في الغضب على الغضب: فغضب فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب عليهم بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم.
قلت: ومعنى: باءوا: استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب.
وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، وعن عكرمة وقتادة مثله.
قال السدي: أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العجل، وأما الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس مثله].
ولا منافاة بين هذه الأقوال، فالله غضب عليهم بتركهم العمل بالتوراة، ثم بكفرهم بعيسى، ثم بعبادتهم العجل، ثم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا منافاة بين هذه الأقوال، فكلها حق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:90]: لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60])) [الأعراف:206]، أي: صاغرين حقيرين ذليلين راغمين.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى حدثنا ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس، تعلوه نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار)].
ابن عجلان فيه كلام، فقد حصل له اختلاف في حديث أبي هريرة، والحديث صحيح، ولا شك أن المتكبرين الذين يتكبرون عن الإيمان بالله وبرسوله أن أنهم لهم الصغار والإهانة وعذاب النار.