قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأول ما ينبت من التجويف الأيسر ... إلى قوله وأما الشريان الأكبر وهو الأكبر وتسميته.
الشرح إن هذا العرق شبيه بالأوردة وشبيه بالشريان.
أما شبهه بالأوردة فلأنه من طبقة واحدة، وأن جرمه سخيف، وأنه على قوام ينفذ فيه الدم لغذاء عضو.
وأما شبهه بالشرايين فلأنه ينبض وينبت على قولهم من القلب، وينفذ فيه هواء التنفس، ولما كان نبض العروق من خواص الشرايين لا جرم، كان إلحاق هذا العرق بالشرايين أولى. ولذلك سمي شرياناً وريدياً لا وريداً شريانياً.
ونقول إن العروق التي تنبت في الرئة تخالف جميع عروق البدن، وذلك لأنه في جميع الأعضاء يكون للعرق الضارب طبقتان ولغير الضارب طبقة واحدة والضارب مستحصف وغير الضارب سخيف. وعروق الرئة بالعكس من هذا. واختلفوا في سبب ذلك فقال إسقليبيداس: إن ذلك لأن شرايين الرئة شديدة الحركة كثيرتها جداً فتهزل. وذلك لأنها تنقبض بنفسها وتنبسط وتنقبض تبعاً لانبساط الرئة وانقباضها والحركة المفرطة تهزل. وأما أو ردتها فإنها تتحرك تبعاً لحركة الرئة فقط.
والحركة المعتدلة مسمنة مغلظة للجرم. وأما في باقي الأعضاء فإن الشرايين إنما تتحرك بنفسها فقط. فتكون حركتها متوسطة فتحصف وتغلظ. والأوردة ساكنة دائماً. وذلك مهزل مذبل للأعضاء. وقد أفسد هذا جالينوس بأمرين: أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان الاختلاف إنما هو بزيادة الغلظ وقلته لا بعدد الطبقات.
وثانيهما: أنه لو كان كذلك لكانت هذه العروق قبل عروض هذه الحركة متساوية في الرئة وغيرها، وذلك كما في الأجنة، فإن رئاتهم لم تكن بعد تحركت، ومع ذلك فإن عروقها تخالف عروق سائر الأعضاء.
والذي ذهب إليه جالينوس أن سبب ذلك هو أن شرايين الرئة الحاجة إليها جذب الهواء إلى القلب ودفع فضوله فيحتاج أن تكون سهلة الإجابة لمتابعة الرئة في انبساطها وانقباضها، ولا كذلك الأوردة فإن المقصود منها تنفيذ الغذاء. وذلك ما يضر فيه الحركة. فلذلك ينبغي أن تكون أبعد عن قبول متابعة الرئة في الحركة.
والذي نقوله نحن الآن، والله أعلم، أن القلب لما كان من أفعاله توليد الروح وهي إنما تكون من دم رقيق جداً، شديد المخالطة لجرم الهواء فلا بد وأن يجعل في القلب دم رقيق جداً وهو اء ليمكن أن يحدث الروح من الجرم المختلط منهما وذلك حيث تولد الروح، وهو في التجويف الأيسر من تجويفي القلب.
ولا بد في قلب الإنسان ونحوه مما له رئة من تجويف آخر يتلطف فيه الدم ليصلح لمخالطة الهواء فإن الهواء لو خلط بالدم وهو على غلظه لم يكن من جملتهما جسم متشابه الأجزاء، وهذا التجويف هو التجويف الأيسر حيث يتولد الروح. ولكن ليس بينهما منفذ، فإن جرم القلب هناك مصمت ليس فيه منفذ ظاهر كما ظنه جماعة، ولا منفذ غير ظاهر يصلح لنفوذ هذا الدم كما ظنه جالينوس فإن مسام القلب هناك مستحصفة وجرمه غليظ فلا بد وأن يكون هذا الدم إذا لطف نفذ في الوريد الشرياني إلى الرئة لينبث في جرمها ويخالط الهواء ويتصفى ألطف ما فيه، وينفذ إلى الشريان الوريدي ليوصله إلى التجويف الأيسر من تجويفي القلب، وقد خالط الهواء وصلح لأن تتولد منه الروح وما يبقى منه الروح أقل لطافة تستعمله الرئة في غذائها. ولذلك جعل الوريد الشرياني شديد الاستحصاف ذا طبقتين ليكون ما ينفذ من مسامه شديد الرقة وجعل الشريان الوريدي سخيفاً ذا طبقة واحدة ليسهل قبوله لما يخرج من ذلك الوريد. ولذلك جعل بين هذين العرقين منافسة محسوسة.
قوله: وأول ما ينبت من التجويف الأيسر شريانان المراد بهذا أن هذين الشريانين أنهما أو ل شرايين البدن كله، إلا أن هذا التجويف تنبت منه أشياء منها هذان الشريانان.
أولهما: وإنما كان نبات هذين التجويف الأيسر لأن الشريان المطلق منهما ينفذ فيه الروح إلى الأعضاء الأخر.
وإنما يمكن ذلك بأن يكون تجويفه مبتدئاً من التجويف الذي يتم فيه تكون الروح وذلك هو التجويف الأيسر من تجويفي القلب.
وأما الشريان الوريدي فلأنه عندهم لأجل نفوذ الروح إلى الرئة وأخذ الهواء منها وعندنا أنه كذلك، ولكن الهواء الذي يأخذه من الرئة لا بد وأن يكون مخالطاً للدم مخالطة تصلح معها لأن يتكون منهما الروح.