الخاصية الثالثة: أن هذا العصب مع كونه للحس فقط فإنه ينفذ في العضو الذي هو آلته على غير الاستقامة وإنما كان كذلك لأن الإنسان ونحوه ينبغي أن تكون له عينان حتى إذا عرضت لإحداهما آفة قامت الأخرى مقامها في الإبصار وينبغي أن يكون بين موضعهما بعد ما. إذ لو كانت في موضع واحد لكانت الآفة العارضة لإحداهما يلزمها في الأكثر آفة الأخرى فلم يبق للتكثير فائدة وإذا كان كذلك فلو ذهب هذا العصب على الاستقامة إلى العينين لكان خروجهما إما أن يكون من موضع واحد حتى يكون أخذهما إلى العينين مؤرباً وتكون القوة الباصرة موضوعة في الموضع المشترك بينهما، وهو عند منشئهما، أو لاً يكون كذلك بل يكونان خارجين من موضعين ذاهبين إلى العينين بغير تأريب. فإن كان الأول، لزم ذلك ضعف جرم الدماغ هناك، لأنه حينئذٍ يحتاج أن يكون في موضع واحد ثقب عظيم في جوهر الدماغ إلى بطونه بحيث يعم ذلك الثقب لثقبتي العصبتين، ولزم أيضاً أن يكون أيضاً موضع القوة الباصرة بعيداً عن موضع ابتداء تشبح الروح بالمرئي، ويكون الشبح الواقع في روح كل واحدة من العصبتين بمعرض الانمحاء والتغير قبل وصوله إلى موضع القوة ولا كذلك إذا كانا يلتقيان في وسط تلك المسافة. فإن انطباق أحدهما على الآخر موجب لقوة ثبات هيئته في الروح.
وإن كان الثاني، وهو أن تكون العصبتان آخذتين إلى العينين على الاستقامة وناشئتين من موضعين مختلفين فحينئذٍ إما أن يكون في كل واحدة من العصبتين قوة باصرة، فيلزم أن ترى الشيء اثنين أو لا يكون في كل واحد منهما قوة فلا يرى الشيء البتة أو يكون في إحداهما دون الأخرى قوة فيكون الإبصار بالعين الواحدة والأخرى معطلة. وذلك محال.
ولقائل أن يقول: يجوز أن تكون القوة الباصرة حينئذٍ في داخل الدماغ فلا يلزم أن ترى الشيء اثنين لأن ما يرد من الشبحين حينئذٍ ينطبق أحدهما على الآخر في داخل الدماغ فتدركه القوة واحداً كما يقولون حيث القوة في موضع اجتماع تجويفي العصبتين في وسط المسافة إلى العينين.
وجوابه: إن هذا غير ممكن لأن القوى التي تكون في داخل الدماغ إنما يمكن أن تكون مدركة لما أدركته الحواس الظاهرة فقط فما لا يدركه شيء من الحواس الظاهرة لا يمكن إدراكه بقوة في داخل الدماغ البتة.
فإذاً لا بد وأن يكون نفوذ هاتين العصبتين إلى العينين على غير الاستقامة بل أن تأخذ المسافة على تأريب ويلتقيان في وسطها، وتكون القوة الباصرة هناك.
الخاصية الرابعة: أن هذا العصب لا بد وأن يكون كل واحد من فرديه مثقوباً في سطحه الذي يواجه به الآخر ثقباً ينفذ إلى تجويفه، وإن يكون ذلك الثقب في موضع التقائهما حتى يتحد تجويفهما هناك وتكون القوة الباصرة موضوعة في الموضع المشترك بينهما لتكون رؤية الشبحين واحداً على وجه ولا يكون كل واحد من الشبحين بمعرض التغيير والبطلان.
الخاصية الخامسة: أن هذا العصب لا بد وأن يكون مع غلظه قصيراً لأنه لا يبعد العينين ومسافة ما بينهما، وبين مقدم الدماغ قصيرة جداً.
قوله: مبدؤه من غور البطنين المقدمين. يريد أن هذا الزوج مبدؤه من داخل الدماغ أعني المخ، وإنما كان كذلك ليكون التجويف الذي في كل واحد من فرديه نافذاً إلى بطون الدماغ ليكون نفوذ الروح إلى هناك متشبحة تشبح المرئي حتى ينحفظ ذلك الشبح بحاله بقوة الخيال. وفائدة خروجها من البطنين أن يكونا بحيث إذا عرضت آفة لأحد بطني الدماغ المقدم يوجب فساد الإبصار قام الآخر مقامه.
قوله: ثم يلتقيان على تقاطع صليبي. قد قيل: أن العصبتين متقاطعتان بحيث تنفذ اليمنى منهما إلى العين اليسرى واليسرى إلى العين اليمنى.
وجالينوس يعتقد خلاف ذلك، ويرى أن اليمنى تنفذ إلى العين اليمنى واليسرى إلى اليسرى وأن العصبتين لا تتقاطعان بلا تتلاقيان، وينثقب كل واحدة منهما عند موضع التلاقي حتى يكون هناك موضع مشترك لتجويفهما ثم يتفارقان فتذهب كل واحدة منهما إلى العين المحاذية لمبدئه وهذا هو الرأي المشهور به ويقول الشيخ أيضاً فقوله على تقاطع صليبي يريد أن يكون ذلك في الرؤية. وفي الحقيقة إنه ليس كذلك.