وثانيهما: أنه لو كان اتحاد العظم حينئذٍ محموداً لم يخلق لعظام الزندين والساقين ونحوهما لواحق. بل كان يخلق كل واحد من تلك العظام قطعة واحدة لأن هذه العظام تحتاج أن تكون قوية فلو جاز أن يكون عظماً واحداً لما كثرت أجزاؤها، لأن ذلك مما يضعف له جرمها، وحيث لم يخلق قطعة واحدة علم أن ذلك مع اختلاف الأجزاء في الصلابة واللين مما لا يجوز.
وإذا كان كذلك وجب تكثير عظام الرأس بعدد ما يجب أن يكون فيها من الاختلاف المذكور.
ولقائل أن يقول: إن كلا هذين الأمرين مما لا يصح.
أما الأول: فلا بد وأن يكون من هذا العظم متخلخلاً، فلا بد وأن يكون إما بحذاء الحس كعظم الجبهة، أو مستوراً باللباس عادة كعظمي اليافوخ وذلك مما يقلل قبوله للآفات، فلا يكون ما يعرض له منها أكثر من العارضة للذي يجب أن يكون من هذا العظم صلباً.
وليس لكم أن تقولوا: إن الصلب تعرض له الآفة حينئذٍ تارة بنفسه، وتارةً لسريان ما يعرض للتخلخل، وذلك موجب لتكثير آفاته لأنا نقول: إن هذا إذا سلم كان هو بعينه المنفعة الأولى.
وأما الثاني: فمن وجوه: أحدها: أن الفاضل أرسطوطاليس حكى أن رجلاً لم يكن لرأسه شؤون بل كان من عظم واحد. فلو كان في ذلك مفسدة لما وجد.
وثانيها: أن كل واحد من عظمي اليافوخ والجدارين اللذين يمنة ويسرة. فإن أجزاءه يجب أن تكون مختلفة في الصلابة واللين.
وأما عظما اليافوخ فإن مقدمهما شديد اللين، فلذلك ينغمز في سن الطفولة بأدنى مس، وأما الجدران فلأن كل واحد منهما يجب أن يكون ما عند ثقب الأذن الذي فيه شديد الصلابة بالنسبة إلى باقي أجزائه. ولو كان وجوب هذا الاختلاف يوجب تكثير العظام لكان كل واحد من هذه العظام متكثراً. والواقع بخلاف ذلك.
وثالثها: أن تكثر العظام وإن نفع بالوجه الذي قلتم فهو يضر من جهة أنه يضعف جرم الرأس، فلم قلتم إن هذا النفع راجح على هذه المضرة حتى تراعى في الخلقة دون هذا الضرر؟.
ورابعها: أن عظام الساقين والفخذين ونحوهما إنما كثرت أجزاؤها ليكون هذا العظم الذي هو المخ مسلك ينفذ فيه، وهو موضع الالتحام فلا يدل تكثرها على أن اختلاف الأجزاء يوجب تكثير العظام.
الجواب: أما ما قيل على الأمر الأول، فإنا وإن سلمنا أن الأجزاء التي يجب تخلخلها من عظم الرأس، يقل قبولها للآفات الخارجية بما قلتم لكنها لا محالة شديدة القبول لمثل العفونة ونحوها.
فلو كان الجميع عظماً واحداً لكان الصلب منه مستعداً لذلك أيضاً بسبب السريان، وأما ما قيل على الأمر الآخر.
فالجواب: على الأول، أنا لا نمانع إمكان اتحاد هذا العظم لكنا نمنع أن تكون البنية حينئذٍ فاصلة. ولعل هذا الذي كان رأسه من عظم واحد قد كان فاسد الذهن رديء الأخلاق، لأجل احتباس الأبخرة الكثيرة في دماغه.
وعن الثاني: أن الاختلاف الواجب في هذه العظام ليس بكثير بحيث يوجب لتكثير القطع، ولا كذلك جملة عظام الرأس.
وعن الثالث: أن المؤلف من عظام كثيرة إنما يلزم أن يكون ضعفه كبيراً، إذا كانت مفاصله غير موثقة كإيثاق شؤون الناس، وأما إذا كانت بهذا الإيثاق، فإن ما يحدثه ذلك من الضعف لا يكون له قدر يعتد به.
وعن الرابع: أن تكثير أجزاء عظام الساق والساعد ونحوها. لو كان لنفوذ الغذاء لكان العظم الأكبر المحتاج إلى غذاء أكثر أجزاؤه أكثر. ولو كان كذلك لما كان الزند الأعلى ذا لاحقتين والزند الأسفل أعظم منه بكثير وهو ذو لاحقة واحدة.
والمنفعة الثالثة من منافع تكثير عظام الرأس أن يكون لما غلظ من الأبخرة التي لا يمكن نفوذها في مسام العظام طريق إلى التحلل من الخلل الواقع بين القطاع وذلك مما لا يتأتى لو كان عظماً واحداً، وذلك لأن الدماغ تكثر فيه الأبخرة، وأبخرته غليظة، وأما كثرتها، فلأنه موضوع في أعلى البدن فيكون تصعد البخار إليه بالطبع.
وأما غلظها فلأجل برودة الدماغ ورطوبته.
وهذه الأبخرة لو بقيت في داخل الرأس لأفسدت الذهن، وآلمت وصدعت، وإخراجها إنما يكون من منافذ متسعة فلو كان الرأس من عظم واحد لاحتاج أن يكون فيه ثقوب كثيرة جداً، وذلك موهن له، معد له للانكسار.
والمنفعة الرابعة: أن يكون لما يخرج من الدماغ من العصب الذي يحتاج إلى تفريقه في أعضاء الرأس طريق إلى النفوذ، وذلك في فرج المفاصل، ولو كان العظم واحداً لكانت الثقوب تضعفه.