وهذا يتم سواء كانت العين مرتفعة أو منخفضة ولكن العين المرتفعة ترى أكثر مما إذا كانت غير مرتفعة. وسبب ذلك ليس زيادة قوتها أو زيادة إدراكها بل إن تشكل الأرض كرة، فالبعيد جداً ما هو على ظاهر الأرض ينستر عن الرؤية بحدبة الأرض، وبيان هذا ليكن الأرض كرة ب ح د والمرئي د والرائي البعيد ب والقريب ج ق لا يراها البعيد لأجل انستاترها عنه بحدبة الأرض ولا كذلك ج القريب ونحن إن شاء الله تعالى نحقق الكلام في هذا إذا نحن تكلمنا في كيفية الرؤية بالعين، وذلك عند كلامنا في أمراض العين.
ولتعلم الآن أن العين تحتاج أن تكون في أعلى موضع من البدن ويحتاج ذلك أن تكون قريبة جداً من الدماغ ليكون العصب الآتي إليها منه قريباً من طبيعة الدماغ، فلا تكون شديدة اليبوسة.
وذلك لما تعلمه حيث نتكلم في كيفية الرؤية وإنما يمكن ذلك إن كان الدماغ موضوعاً في أعلى البدن، وإنما يمكن ذلك إذا كان العضو الحاوي له كذلك. فلذلك يجب أن يكون الرأس في أعلى البدن فلذلك المحوج إلى خلقة الرأس أعني العضو العالي المحاذي للدماغ إنما هو العينان.
قوله: فإن قياس العين إلى البدن قريب من قياس الطليعة إلى العسكر لاشك أن جميع الحواس مشتركة في أنها تحرس البدن من الآفات فإن الشم يحرس من التضرر بالرائحة الرديئة القتالة، وذلك بأن تحد تلك الرائحة من آلة الشم لما يحوج ذلك إلى التنحي عنها. وكذلك هذه الحاسة تجلب للبدن النافع من الرائحة لأن آلة الشم تلتذ بتلك الرائحة فيدعو ذلك إلى الاستكثار منها وكذلك حاسة الذوق تحرس البدن من تناول الأشياء الضارة والقتالة بتألم تلك الحاسة بها عند نفوذ الأجزاء المنفصلة عنها النافذة مع الريق إلى باطن اللسان، وكذلك هذه الحاسة تجلب الأشياء النافعة للبدن، وذلك بأن تلتذ الحاسة بطعومها فتحرض النفس على الاستكثار منها وكذلك حاسة السمع تحرس البدن عند الضرر بملاقاة الأصوات الضارة بأن تتألم بها هذه الحاسة وتجلب إلى البدن النفع بالأصوات النافعة، بأن تلتذ هذه الحاسة فتحرض النفس على استماعها والاستكثار منها.
وكذلك حاسة اللمس تدفع عن البدن ضرر ما تضر ملاقاة البدن وذلك بتألم الحاسة بقوة بردها مثلاً أو بقوة حرها أو لشدة خشونتها أو صلابتها ونحو ذلك وتجلب إلى البدن النفع بالأشياء التي تنفع ملاقاتها البدن، وذلك بالتذاذ هذه الحاسة بها وترغب النفس في ملاقاتها، والاستكثار من ذلك ولكن جميع هذه الحواس إنما تتمكن من الشعور بمحسوساتها بعد ملاقاتها لها ومن الأشياء الضارة ما إذا بلغ القرب منه إلى حد الملاقاة فإن القرب منه حينئذٍ قد يكون غير ممكن.
وأما حاسة البصر فإنها تدرك الأشياء المحاذية لها أو لصقيل يحاذيها وإن بعدت جداً سواء كانت تلك الأشياء ضارة أو نافعة، فلذلك هي أولى بالحراسة من غيرها من الحواس إنما يلزم في العين أن تكون قريبة جداً من الدماغ لتكون الروح فيها كما هي في الدماغ حتى يكون الشبح الواقع فيها وهي في العين باقياً على حاله ومقداره إذا حصلت تلك الروح في الدماغ فلا يتغير في شيء من ذلك لأجل تغير حال الروح بسبب التجمع التابع لليبوسة والانبساط والتابع لكثرة الرطوبة ونحو ذلك.
ورأس الإنسان وما يجري مجراه اشتمل على جملته بسائطها القحف، وما يحيط به وتغشيه وما في داخله من المخ والحجب والجرم الشبكي والعروق والشرايين، والذي يحيط بالقحف السمحاق ولحم وجلد ينبت فيه شعر الرأس وطول شعر الرأس من خواص الإنسان وسبب ذلك كثرة ما يتصعد إليه من الأبخرة الدخانية وإذا كبر الإنسان قل شعر رأسه لأجل نقصان الدخانية حينئذٍ لأن أرضية البدن لها يعرض حينئذٍ أن تجف فيعسر تصعدها فإن الرطوبة تعين على تصعد الأرضية المتسخنة والقحف من عظام كثيرة لما نذكره بعد، ولما ذكرناه في تشريحنا لعظام الرأس.
وقد صادف الفاضل أرسطوطاليس في تشريحه رأساً لإنسان ليس لعظامه مفاصل وإنما رأسه من عظم واحد.
فلنأخذ الآن في تشريح الدماغ وكلامنا فيه يشتمل على مباحث تسعة. والله ولي التوفيق.
البحث الأول
كلام كلّي في تشريح الدماغ
قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما تشريح دماغ الإنسان فإن الدماغ ينقسم إلى جوهر حجابي وإلى جوهر مخي ... إلى قوله: وحده أظهر للحس.
الشرح