وقد يقول قائل: لقد وجدت هذه الأجهزة وهي مبلغة عن الإمام في قراءته وفي تنقله وحركات انتقاله، فلماذا نحتاج إلى المبلغ؟ ونقول: في بادئ الأمر كان يقع في الموسم أنه قد ينقطع التيار، وقد يتعطل الجهاز فيقع ارتباك في الصلاة في هذا المسجد بالذات، فوجود المبلغ أقل ما يقال فيه: إنه سنة سابقة، وإذا وجد هذا الجهاز فيكون عن طريقه أيضاً وقع هذا التبليغ، وعدم تغيير الشيء الثابت وعدم تغيير ما عليه الناس هو الأولى، كما قال مالك رحمه الله: إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار، وكلٌ قد ذهب بما سمع من رسول الله، وتغيير أو انتقال الناس عما كانوا عليه ثقيل، فلا بأس بإمرار ذلك.
ولكن إذا كان الصوت مزعجاً، ومعنى الإزعاج أن يصدر فيه تشويش، فيعالج، وقد جاء عن أحمد رحمه الله وعند المالكية تعدد المؤذنين للأذان الواحد للفريضة الواحدة، وقد أنشأ عثمان رضي الله عنه الأذان الأول للجمعة لحاجة الناس إليه، كما كان قد شرع أذان أول في صلاة الفجر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يرجع القائم ويتسحر الصائم، فكأن الأذان الأول في الفجر وجد بعد أن لم يكن؛ لحاجة الناس إليه، وعثمان رضي الله عنه خليفة راشد، وفي الحديث: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ، فرأى من المصلحة أن يزيد أذاناً قبل الوقت وفي السوق؛ ليعلم الناس بقرب الوقت.
فإذا دعت الحاجة إلى تعدد المؤذنين للوقت الواحد في المسجد الواحد فلا مانع، حتى قيل: يجوز التعدد إلى سبعة أشخاص يؤذنون.
وأما كيف يؤذنون فقالوا: إن كان المسجد فسيحاً والبلدة منتشرة وقف كل واحد في جانب، ويؤذن كل واحد إلى الجهة التي تليه.
وبعضهم يقول: يؤذن الأول، ثم الثاني ثم الثالث، إلا إذا كانت صلاة المغرب فإنهم يؤذنون في وقت واحد ما لم يكن فيه تشويش، فإذا لم يكن تشويش فلا مانع.
ونحن نقول أيضاً: إذا نظمت هذه الأجهزة بحيث لا يقع منها تشويش بعضها على بعض، أو فيما كان مداه أبعد، فلا مانع في هذا.
وما يوجد الآن من بعض المساجد التي لها أجهزة تبليغ -وفي يوم الجمعة بالذات- فلا ينبغي رفع الأصوات في تلك المساجد حتى تصل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الأصل، وبها يقع التشويش على الناس.
فاتخاذ هذه الأجهزة له أصل في السنة، وكان صلى الله عليه وسلم يرفع صوته.
وأما إذا كان المستمعون لا يبلغهم صوت الإمام لكثرتهم، فالقول بأن عليه أن يبلغ الجميع فوق طاقته.
وأما هل يتخذ مبلغين، فإنه لا يتخذ مبلغين، وما حدث ذلك في إبلاغ الخطبة قط، ولكن: من كان يستمع فعليه الإنصات إلى ما يسمع، ومن لم يبلغه صوت الخطيب فلم يسمع شيئاً فهناك من يقول: يصغي حتى لا يشوش على غيره.
وهناك من يقول: له أن يشتغل بالتلاوة بدلاً من ضياع الوقت.
فهناك حاجة إلى إبلاغ الصوت لجميع المستمعين، فاتخاذ هذه الأجهزة إنما هو لإسماع وإبلاغ جميع الحاضرين خطبة الإمام، ولأن الخطبة إنما هي إبلاغ وبيان لما ينبغي عليه بيانه، وفيها تلقي الموعظة والإرشاد في أمر ديني أو دنيوي من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواءٌ أكان ذلك في مسجده صلى الله عليه وسلم أم في أي منبر في العالم؛ فإنه تابع لمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: امتدادٌ لسنته في بقاع الأرض.
فإن الإنسان إذا سمع الموعظة، وسمع التوجيه من بيت من بيوت الله، وعلى منبر يحكي سنة رسول الله، كان أدعى إلى قبولها، وكان أرجى إلى سماعها وتنفيذها، والله تعالى أعلم.