قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى) رواه أحمد وأبو داود] .
قدم المؤلف رحمه الله ذكر محظور الإمامة من ناقص نقصاً معنوياً كأعرابي يؤم مهاجراً، والفرق بين الأعرابي والمهاجر ليس نقصاً في الخلقة، ولكنه أمر معنوي اعتباري.
والأعرابي إذا جاء وهاجر وجلس مدة في المدن أصبح حضرياً، وزال عنه وصف الأعرابي، وكذلك الفاسق.
فهذه أوصاف اعتبارية، وليست أوصافاً خلقِية.
فلما كان الأمر كذلك جاء المؤلف رحمه الله بعد هذا ببيان النقص الخلْقي في شخصية الإنسان، كأعرج، وأعور، وأعمى، فهل هذه النواقص الخلْقية تمنع من الإمامة أم لا؟ فذكر أكبر عاهة وهي العمى، وإذا جئنا إلى كتب القضاء فإن جمهور الفقهاء -ما عدا الحنابلة- يقولون: لا تصح ولاية القضاء للأعمى والحنابلة قالوا: العمى ليس نقصاً في العدالة، والمطلوب من القاضي أن يكون حاكماً بالعدل والجمهور قالوا: إن البصر والرؤية من وسائل معرفة المحق من المبطل، قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29] ، ومن الذي سيرى سيماهم؟ فاشتراط البصر يكون من كمال الوصف.
ولقد عرضت علي قضية، حيث جاء رجل أعجمي ووقف في الباب -وكان طويلاً- يصيح صياح المرأة الثكلى: مظلوم مظلوم وكان هذا في زمن الملك فيصل يغفر الله له.
فالكاتب الذي بجانبي قال: هذا مسكين فانظر كيف الظلم! فأردت أن أقول له: لا تفتح فمك، وتأمل مع هذا الصياح، والغرفة مليئة بالمراجعين والكتاب والقاضي، فإذا نظر الرجل كأنه سهم مصوب علي، فقابلته بسهم وسهم، وانتظرت.
فالجندي يريد أن يدخله، ولكن الرجل ممتنع، فقلت للجندي: أحضر العصا فسمع كلمة (عصا) فمشى ووقف أمامي، وأعاد الكرة، فقلت للجندي: اصفعه على وجهه إذا لم يجلس إن هذا قد يكون جنى، لكن للقاضي أن يتكلم بما لا يريد أن يفعل.
ثم إنه جلس، فقلنا له: اقرأ الدعوى، قال: لا أفهم قلت: أنت فهمت (أحضر العصا!) ، وفهمت (أعطه كفاً) فيجب أن تفهم الباقي.
فذاك الصياح وذاك التوجع لو كنت خلف حجاب لقلت عنه: هذا ملأ الدنيا دموعاً وبكاء إلا أنه ما قطرة دمع واحدة نزلت من عينيه.
فألزمته بالإجابة فأجاب.
والمهم أنه ثبتت عليه الدعوى، وجاء أخوه وخلّصه مما لزم عليه.
أقول: إن البصر للقاضي قد يعينه على حل القضايا، والعون من الله سبحانه وتعالى، ولكن هذه وسائل، كما أن السمع من وسائل إيصال كلام الطرفين، ووسيلة لفهمه وعقله، كذلك البصر يساعد.
فهنا يذكر المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف رجلاً أعمى، وهو ابن أم مكتوم المعروف، وكان قد استخلفه للصلاة وإمارة المدينة، وتارة كان يستخلف أبا هريرة، فجاء المؤلف رحمه الله في نهاية البحث وقال: إن كانت بعض الصفات الخلُقية تمنع من الإمامة فإن بعض الصفات الخلْقية لا تمنع منها، وعلى هذا تصح إمامة الأعمى.
ومن ينازع في إمامة الأعمى يقول: الأعمى لا يعرف القبلة أين هي، وإنما سيتوجه إلى القبلة تقليداً لغيره، ولكن المبصر يعرفها! فيقال له: بماذا يعرفها المبصر، هل سيرى الكعبة؟ أنه لن يراها، ولكن بالجهات، وسيرى المحراب، فكذلك الأعمى يمكن أن يتحسس المحراب.
ولهذا قال بعض الناس: المحاريب في المساجد بدعة؛ لأنها لم تكن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالوا: نعمت البدعة، بل هي سنة حسنة؛ لأنه لو جاء أعمى في الليل ودخل مسجد قوم يريد أن يصلي فكيف يعرف القبلة، فجدران المسجد في أربع جهات ولا فارق بينها، فإذا تحسس بيده وجد المحراب وعرف أين القبلة.
فإمامة الأعمى صحيحة مع الشروط الأخرى: صلاحه و (أقرؤهم لكتاب الله) و (أعلمهم بالسنة) .
قال: [ونحوه لـ ابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها.