إذا كانوا جماعة في مسجد كبير وفي عدة صفوف، أو في صف واحد فعليهم أن يتراصوا كما جاء في هذا الحديث: (رصوا صفوفكم) ، والرص: هو الوقوف بالمساواة والمحاذاة.
فالرصّ بمعنى الجمع، تقول: رصه.
أي: شد عليه.
بمعنى: شد الحبل عليه شداً، فالتشديد في الحرف يدل على الشدة في المادة، مثل: عضّ، شدّ، مدّ، حدّ إلى آخره.
فقوله: (رصوا صفوفكم) يعني: لا تجعلوا بينها خللاً، ولتكن متراصة متلاصقة.
وأيضاً من معاني الرص: الاعتدال؛ لأنه لو وقف واحد متقدماً، وواحد متأخراً فلا رص، ولا يتأتى الرص إلا عند المساواة والاعتدال.
قال: (وقاربوا بينها) ، قوله: (بينها) هل المقصود به في الأفراد أو الصفوف؟ في الصفوف.
وتقدم في الحديث: (تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم) ، وهنا قال: (وقاربوا بينها) ، وتقدم هناك حد التقارب بين الصفوف، وحده ما يقوله العلماء في حد السترة، فبعضهم يجعله ثلاثة أذرع من كعب القدم، وبعضهم يجعله ثلاثة أذرع من أطراف الأصابع، بحيث لا يتسع الفراغ لصف آخر بين الصفين، لا أن يكون بين الصف والصف ما يسع صفين وثلاثة.
ونجد الشارح هنا يتألم ويتوجع، فيقول: إن بعض المساجد تكون فيها الجماعة، فإذا أقيمت الصلاة فإنك تجدهم أوزاعاً في عدة صفوف، ولو اجتمعوا فلن يكملوا صفاً واحداً، وسيأتي التنبيه على هذا.
فقوله: (قاربوا بينها) أي: لا تجعلوا بينها تباعداً، وكما تقدم ألا تزيد المسافة بين الصف والصف، على ما يكون بين المصلي وسترته للصلاة.
قال: (وحاذوا بالأعناق) ، الأعناق: جمع عنق، وهو: الرقبة.
وتكون المحاذاة بالأعناق في الصف بأن لا يتقدم إنسان ماداً رقبته بالتقدم ولا يتأخر.
وكان السلف رضوان الله تعالى عليهم إذا قاموا في الصف حاذوا، يقول أنس: (كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه) ، فإذا كان الأمر كذلك فهذه حقيقة الرص والمحاذاة.
ونحب أن ننبه إلى فعل بعض المصلين، حينما يكون هناك انفراج في الصف، وهو يريد أن يحاذي ويقارب، فإذا به يفرج قدميه على شكل ثمانية، ويحاول أن يتكلف إلصاق قدمه بقدم من بجانبه، لكنه بهذا الفعل يكون قد أوجد فرجة في نفسه هو ما بين قدميه.
فحقيقة المحاذاة ليست بأطراف الأقدام، ولكن بالقدمين والركبتين والمنكبين، وقد جاء في بعض الآثار عن السلف أن أسرع ما كان يتآكل من فمصهم الكتف لكثرة احتكاك مناكبهم في الصلاة.
وهذه ناحية سيأتي التنبيه على خلافها أو ضدها، ولا يمكن أن تجد إنساناً يقف بجوارك ويلتصق بك وتلتصق به إلا إذا كان بينك وبينه ألفة، أما شخص تنفر منه، أو ينفر منك فقلّ أن يلتصق بك، بل ربما تباعد، وربما جاء بشخص ليقيمه بينك وبينه؛ لأن القلوب متنافرة، أما مع صفاء القلب، ومع طيب النفس وعدم وجود أي موانع أخرى ستجد الإنسان يستريح حينما يأتي إنسان يلصق نفسه به ليكمل الصف ويسد الفرج، وسيأتي التنبيه على مثالب عدم المساواة، وعدم الرص الذي نبه عليه صلى الله عليه وسلم.