قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن سلمة قال: قال أبي: جئتكم من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فقال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً، قال: فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآناً، فقدموني وأنا ابن ست أو سبع سنين) رواه البخاري وأبو داود والنسائي] .
هذا الحديث بداية مبحث من أحق بالإمامة؟ اتفق العلماء على أن أحق الناس بالإمامة أتقاهم وأقرؤهم وأعلمهم، وكل من جمع تلك الصفات الخيرة.
فإذا لم توجد كل هذه الصفات فمن أحق؟ نعلم أولاً أن هناك حديثاً -وإن كان سنده فيه شيء-، وهو مكتوب على محراب المسجد النبوي في القبلة (إن أئمتكم وافدوكم إلى الله، فانظروا من توفدون) ، فلو كان لنا حاجة عند ملك، وأردنا أن نرسل شخصاً أوشخصين فإنا نرسل الأشخاص الذين يحسنون مخاطبة الملوك.
فإذا كنا -ولله المثل الأعلى- قدمنا الإمام ليدعو ونؤمن بعده فهو وافدنا إلى الله، فمن الذي نختاره وافداً لنا يفد على الله، ويسأل حاجتنا؟ إنه أفضلنا وخيرنا.
والخيرية أنواع، وفي أبواب متعددة، فمنها الشجاعة، والكرم، والعلم، والمعرفة، وكل هذه من صفات الخير، ولكن هناك صفات ترجع لأمور الدنيا، وهناك صفات ترجع لأمور الدين، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم وضع المبدأ في هذا المقام (أقرؤكم) ، و (أقرأ) هنا أفعل تفضيل، فهل معنى القراءة من مادة (قرأ) بمعنى: تلا كتاب الله، أو (قرأ) بمعنى فقه؟ نجد بعض الناس يختلفون في ذلك، ولكن إذا كان الشخص قارئاً فقيهاً ورعاً زاهداً فهو أولى، ولا شك في ذلك، وإذا وجدت بعض الصفات، بأن كان عابداً زاهداً ورعاً لكنه عامي لا يحسن التلاوة، ووجد إنسان من عامة الناس مستور الحال، وهو أجود الحاضرين قراءة لكتاب الله، بمعنى: أجود الناس قراءة -كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه تفسيره: بأن يكون مجوِّداً معرِباً لكتاب الله- فنحن في حاجة إلى من يقرأ القرآن معرِباً، لا لمن حفظ حروفه، فمجرد حفظ الحروف مع عدم إقامة التلاوة لا يصلح في هذا المقام.
فـ (أقرؤكم) أي: أجودكم قراءة وبعضهم يقول: (أقرؤكم) أكثركم قراءة.
فيحتمل هذا المعنى، فمثلاً: يوجد عندنا شخص يحفظ جزءاً واحداً، لكنه يقرؤه قراءة مجودة، فيعطي كل حرف حقه، ويخرج الحروف من مخارجها، ويعرف كيفية النطق بالحروف في القراءة.
وشخص آخر يحفظ نصف القرآن، لكنه لا يعرف قواعد القراءة، فحفظه مجرد سرد، ولا يعرف أماكن الوقف، أو لا يحسن النطق -كما يقولون- في المد والغنة والتنوين.
إلخ.
فأيهما يُقدم (أقرؤكم) بمعنى: أكثركم، ولو لم يعرب القرآن، أم (أقرؤكم) بمعنى: أجودكم قراءة؟ لاشك أن الأجود قراءة هو المقدم.
وهنا مسألة: هل إعراب القرآن في القراءة بمعنى الفقه، أم أن الفقه قسم مستقل، والإعراب قسم ثان مرجِّح؟ سيأتي الحديث الآخر: (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) ، فأعلمهم بالسنة يتعلق بجانب الفقه.
نبقى في حديث عمرو بن سلمة: أن أباه جاء وقال: (جئتكم من عند النبي حقاً) ، و (حقاً) تأكيد لمعنى النبوة؛ لأن المجيء أمر محسوس، فهو مشاهد حين ذهب وأتى، فهو يقول: من عند النبي نبوة حقيقية.