قال رحمه الله: [وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ (سبح اسم ربك الأعلى) ، و (قل يا أيها الكافرون) ، و (قل هو الله أحد)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وزاد: (ولا يسلم إلا في آخرهن) ] .
في هذا الحديث بيان ما كان يقرأ به صلى الله عليه وسلم في الوتر، وقوله: (كان رسول الله) يقول العلماء: (إن كان) هنا تدل على الدوام والاستمرار، ونظروا في هذه السور الثلاث (سبح) و (الكافرون) و (قل هو الله أحد) ، وتقدم الكلام على السورتين الكريمتين: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) فيما يتعلق بالقراءة في سنة الصبح، وفي ركعتي الطواف، وهنا جاء تكرارهما، وكذلك في ركعتي سنة المغرب، وأن هاتين السورتين يسميان: سورتا الإخلاص، أو سورتا التوحيد، وأن في (قل يا أيها الكافرون) نبذ لعبادة ما سوى الله، وفيه أيضاً تميز الإسلام والمسلمين عن غيرهم {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} [الكافرون:2-4] ، أي: في الحال وفي الاستقبال، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تفردت هذه السورة الكريمة بموضوع واحد وهو: إفراد الله سبحانه وتعالى، وبيان أنه الواحد الأحد الفرد الصمد، واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وأنه الصمد الذي يصمد إليه جميع الخلق، أي: يعمدون إليه ويقصدونه، وهنا يضيف إلينا أبي بن كعب: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وباجتماع هذه السورة مع تلك السورتين نجد افتتاحية السورة الأولى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، والتسبيح بمعنى: التنزيه والتقديس عما لا يليق بجلال الله، وقد جاءت مادة سبح في القرآن الكريم بكل تصاريفها، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحديد:1] {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} [الجمعة:1] حتى المصدر {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] فجاء التسبيح بأنواع تصاريفه؛ لبيان تنزيه المولى سبحانه وتعالى عما لا يليق بجلاله، وقد أشرنا سابقاً أن معنى التسبيح من حيث مادته في اللغة أصلها (سَبَحَ) بمعنى: يسبح في الماء، والإنسان إذا وجد في ماء عميق لا بد أن يسبح وإلا غرق وهلك، ويقال: إن سبح وسبّح (سَبَحَ الله) أي: كأنه يبعد جلال المولى سبحانه عن كل ما لا يليق بجلاله، وإلا هلك هذا الإنسان، أو أنه يسبح ويطلب طرق النجاة بتنزيه الله سبحانه عن كل ما لا يليق بجلاله، بخلاف أولئك الذين اتخذوا الله ولداً، أو اتخذوا له صاحبة، أو اتخذوا له شريكاً، أو وصفوه بصفات لا تليق بجلاله سبحانه، كما وقع اليهود في وصف الله سبحانه بالفقر وبالغل إلى غير ذلك من الصفات التي لا تليق بجلاله سبحانه.
وقد بين لنا الحديث الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله تملأ الميزان، والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض) وكما جاء في الحديث الآخر: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) وهاتان الكلمتان جمعتا طرفي التوحيد؛ لأن (سبحان الله) تنزيه ونفي عن كل ما لا يليق بجلاله، و (الحمد لله) إثبات وإقرار بكل المحامد، وبهذا يجتمع للإنسان بهاتين الكلمتين تنزيه الله سبحانه، وتحميده بكل ما يليق بجلاله، وهذا هو طرفا التوحيد في حق الله.
وهنا قوله: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] التسبيح هنا متوجه إلى (ربك الأعلى) ، ومن سبح اسم ربه فقد سبح ربه من باب أولى، فإذا سبح الإنسان وقدس ونزه أسماء الله العلي العظيم فإنه قد سبح ونزه وقدس المولى سبحانه وتعالى.
ثم جاء بعد هذا التسبيح وهذه الافتتاحية بقوله: {الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، والوصف بالعلو ثابت، وكذلك الاستواء على العرش، وكل ذلك مفهوم في العقيدة، ثم جاء بما يدل ويثبت القدرة الإلهية والربوبية للعالم، {رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1-3] إلى آخر السورة الكريمة مما فيه جماع كمال الصفات لله سبحانه.
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2] ، لو وقف إنسان عند كلمة: (فسوى) طيلة عمره ما استطاع أن يستوفي مدلولها، لو نظرت إلى بني آدم من أبينا آدم إلى آخر إنسان في الوجود، ونظرت في تسوية خلقه لما وجدت اثنين متفقين تماماً متطابقين تمام المطابقة، ولكن كل مخلوق سواه الله تسوية خاصة به، ولو جئت إلى رعاة الحيوانات وبهيمة الأنعام لتجد الإبل والبقر والغنم كلها تتفق في صورة واحدة، ولكن تسوية كل واحدة منها تغاير غيرها من بني جنسها، وتجد الرعاة يختلطون بمئات من رءوس الغنم، فإذا آواهم المبيت تجد كل راع يعرف شياهه ويفصلها عن شياه شريكه ومن كان معه.
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: إذا أردت أن تعرف هذه الآية وهذه القدرة الإلهية قف عند جمرة العقبة، وانظر تلك الوجوه التي جاءت من كل جنس، ومن كل قطر، ومن كل صقع يرمون الجمرات، لن تجد اثنين اتفقا في صفاتهما، بل إن علماء التشريح اليوم يقولون: إن بصمات الناس لا تتفق أبداً، بل إن أصابع الإنسان العشر في يديه لا تتفق بصمة إصبع مع بصمة إصبع أخرى، كم من ملايين الخلق مضوا وفنوا، ويوجدون الآن، ويوجدون بعد ذلك؛ ولا تتفق بصمة إصبع إنسان مع بصمة إصبع إنسان آخر!! هذه المغايرة لو وكل ذلك لأفراد الحذاق من العالم بأن يضعوا لها فيلمات، وأن يضعوا لها صوراً متفاوتة مختلفة لوقفوا عند مليون أو مليونين أو مائة مليون، أما أن يأتوا بأشكال متساوية من العالم كله فهذا يعجز عنه البشر، فالله هو الذي خلق فسوى، وأعطى كل شيء خلقه فهدى، خلق البعير على ما يتلاءم في خلقته، وخلق الأغنام على ما يتلاءم في خلقتها، وخلق الإنسان على ما يلائمه، وخلق عوالم البحار على ما يلائمها، فالإنسان والحيوان لا يستطيع أن يعيش في الماء؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يستخلص عنصر الحياة من الماء وهو الأكسجين كما يقولون، بينما حيوانات الماء خلقها وسواها على أنها تستطيع الحياة في ذلك الماء، وأيضاً منها ما يستطيع الحياة في الماء وفي البر كما يقال: برمائي، أي: يعيش في الماء وفي البر، فهذه التسوية وهذا الخلق لا يستطيع إنسان أن يحصي كنهها، ولا أن يستوعب مدلولها.
{سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1-3] تقدير الخلائق، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] ، هذه المباني نحن نعلم أنها لو اختلت مقادير نسبة موادها البنائية لما استطاعت أن تقوم، حتى يقول المهندسون: لو زادت نسبة الحديد في التسليح لتكسر المسلح، ولو نقصت نسبة الإسمنت فيه لتشقق؛ فلابد من نسبة معينة محكمة، فإذا اختلت تلك النسبة فسد البناء! وأنتم تعلمون جميعاً الذي اكتشف الآن فيما يتعلق بفصائل الدم، وأنه مقادير معينة، ونسب معلومة، وكل شيء في هذا الوجود له تقديره الخاص، والله سبحانه هو الذي قدره.
وأيضاً: وهدى ما خلق وقدر إلى ما خلقه إليه، إذا جئت إلى الطفل، أو إلى الحمل، أو إلى الإنتاج من الحيوان فإنك ستجد الشاة تلد السخلة، وقبل أن تقف على قدميها أو على أرجلها تبحث عن ثدي أمها وتلتقمه وتمتص منه الحليب، من الذي علمها ذلك؟! هل أنت علمتها؟! لا، هو قدر لها الحياة بذلك، وهداها لطريق حياتها، وإذا جئت إلى جميع أنواع الحيوانات تولد النتاج صغاراً، من الذي علمها الازدواج، من الذي ألهم الذكر الذكورة، والأنثى الأنوثة، ثم جمع بينهما ثم كان التناسل، ثم كانت الزيادة والنماء وبقاء الجنس?! من الذي علمهم ذلك؟ إنه قدر لكل شيء حياته ومقاديره، وهداه إلى ما قدره إليه.
لو جئنا إلى عالم الحشرات تجد كما يقولون: مملكة النحل، من الذي هدى النحلة إلى ما هي عليه، ويعجز كبار حذاق المهندسين أن يوجدوا الأعمال التي تعملها النحل في بيتها، وفي جمعها للعسل، وفي بناء بيتها من الشمع، لا يوجد في خلية النخل سراب للهواء ألبتة، بل مسدسات متلصقات، بيت وبيت، وكيف تعمل؟ وكيف تتنظم؟ وكيف شكلت من جماعتها جماعات على أعمال مختلفة؟ كل هذا بتقدير الله، وهداها لما قدره إليها.
فإذا قرأ الإنسان ذلك ولو استمر الإنسان مع السورة الكريمة لما فرغ منها.
هذا مناسبة قراءة هذه السورة مع سورتي الإخلاص في الوتر؛ ليقف الإنسان في كل ليلة وفي صلاته للوتر على عجائب خلق الله، ومن وراء ذلك تجديد الإيمان واليقين بالله سبحانه وتعالى.
والله تعالى أعلم.