نلاحظ -يا إخوان- إيراد المؤلف رحمه الله هذين الحديثين متعاقبين؛ إشارة إلى ما يوجد من شبه التعارض بينهما، فالحديث الأول جاء بلفظ: (اجعلوا -والخطاب موجه للأمة جميعاً- آخر صلاتكم بالليل وتراً) وهذا يعم كل مسلم؛ لأن كل مسلم يصلي المغرب والعشاء وهما من صلاة الليل، المغرب وتر صلاة النهار بكونه ثلاثاً، والعشاء شفع، ومعها سنة ركعتين، فتحتاج إلى وتر، فيتناول الحديث البحث من جانبين: كون الوتر آخر الصلاة، فلو أنه ما صلى العشاء، ودخل وقت الوتر ولم يصل العشاء، فلا يحق له أن يصلي الوتر بناء على أن وقت الوتر من العشاء إلى الفجر؛ لأنه أمر أن يجعل آخر صلاته وتراً، ومن صلاته العشاء مع سنتها، فهذا الحديث يحتم عليه أن يوتر.
نقول: هذا الحديث على وجازة لفظه يتكلم في جانب، ويأتي الحديث الثاني: (لا وتران في ليلة) إذا أخذنا الحديث الثاني على حدة، ونقول: إن إنساناً صلى العشاء وأوتر، ليس له أن يعيد الوتر مرة أخرى؛ لأنه قد أوتر، ولا وتران في ليلة، فهو أوقع الوتر في آخر صلاته، فلا يعيد الوتر؛ لأنه يتكرر، ولا وتران فضلاً عن ثلاثة، وكلا الحديثين يعمل عمله إذا انفرد، من كان يوتر أول الليل ولم يقم آخره صلى العشاء وما يسر الله له، وأوتر ونام حتى يطلع الفجر، فهو جعل آخر صلاته بالليل وتراً، وانطبق عليه هذا الحديث بدون أي معارض.
إنسان صلى الوتر ثم استيقظ بعد نومه، وأراد أن يعيد الوتر، هل يجوز له ذلك؟ لا؛ لأن أمامه حديث: (لا وتران في ليلة) ، فكل من الحديثين يعمل عمله إذا انفك أحدهما عن الثاني، ولكن إذا ارتبط الحديث الأول بالثاني ماذا يفعل؟ وهذه هي المسألة التي كثر الكلام عليها، وتعالج بناحية منهجية، وصورتها: صلى العشاء فأوتر، أخذ بالعزيمة، فصدق عليه أنه جعل آخر صلاته بالليل وتراً، وأعمل الحديث الأول بأن جعل آخر صلاته بالليل وتراً، ثم يسر الله له القيام، فصلى من الليل ما تيسر له، طيب! بعد أن صلى من الليل ما تيسر له، وقد أوتر وتره، يأتيه الحديثان معاً، الحديث الأول يقول: (اجعل آخر صلاتك بالليل وتراً) ، لأنك صليت الآن اجعل آخر صلاتك بالليل وتراً، والحديث الثاني يقول: لا، (لا وتران في ليلة) فما هو المخرج؟ من أراد تحقيق هذه المسألة بأوسع ما يكون فعنده كتاب: قيام الليل للمروزي، أو مختصر هذا الكتاب، وكذلك فتح الباري لـ ابن حجر، وغيره من مجموعات الأحاديث، وأدق ما يكون في ذلك بحثاً ما كتبه الإمام العلامة ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، فهؤلاء يقولون: ما دمت قد أوترت أولاً فصل ما شئت ثم لا توتر، طيب! حديث: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) أين تذهب به؟ تعارض حديث نهي مع حديث أمر! وبعض العلماء يقول: هذا التعارض أنا ألغيه، ألغي الوتر الذي في أول الليل، وكيف تلغيه؟ أليس الوتر ركعة واحدة؟ بلى، قال: أنا عندما أقوم من ثلث الليل الآخر قبل أن أصلي من الليل ما أريد أصلي ركعة واحدة، وأرسلها إلى الوتر في أول الليل، يصبح الوتر الذي في أول الليل شفعاً، يقول: ألغيت الوتر الأول، ثم أستأنف قياماً جديداً وأوتر، فأجعل آخر صلاتي من الليل وتراً.
وهناك من يقول: هذا عمل غير صحيح، وروي عن ابن عباس وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا: هذا تلاعب بالوتر؛ لأنه بعد أن صلى الوتر نام، وربما وجب عليه غسل، تكلم أكل شرب ثم بعد هذا كله ربما يعتريه موجب للوضوء أو موجب للغسل، وأكل وشرب، ونوم، وكلام ثم يصلي ركعة يضيفها للتي قبلها؟! كيف تنضم إليه؟ جاء عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه كان يفعل ذلك، وابن عمر كان يفعل ذلك، فـ عثمان رضي الله تعالى عنه يقول: (ما أراها -يعني: الركعة الثانية التي سأرسلها- إلا كشاردة الإبل) ، فلا ينبغي أن يضم هذه الركعة الواحدة بعد النوم والأكل والشرب ونواقض الوضوء إلى ما تقدم.
طيب! ماذا نفعل؟ قالوا: ننظر في التوفيق بين الحديثين، فالحديثان في فن الأصول ليس بينهما عام وخاص حتى نحمل العام على الخاص، وليس فيهما مطلق ومقيد حتى نقيد المطلق بقيد مقيد، ولكن كلاهما صحيح صريح في موضع يعارض الآخر: (لا وتران ... ) (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) وهنا يقول ابن دقيق العيد: نخرج خارج نطاق الحديثين بالمرجحات الأصولية، وما هي؟ قال: متون الحديث صريحة صحيحة لا غبار عليها، ولكن مضمون الحديثين ما هو؟ قال: مضمون حديث: (لا وتران في ليلة) هذا نفي ونهي أم ندب وطلب؟ نهي ونفي، سواء كان نفياً في أن توقع وترين؛ لأنه لا يوجد وتران في ليلة، أو نهياً عن أن توقع الوترين في ليلة.
وحديث: (اجعلوا آخر صلاتكم) هذا طلب أم نهي؟ طلب، وأقل مقتضيات النهي هنا الكراهية؛ لأن النهي إما حرام أو مكروه، وأقصى درجات الطلب الوجوب ما لم نجد صارفاً، وهل الوتر واجب؟ أصل مشروعية الوتر ليست واجبة، إذاً: كيفيته، أحكامه، لا ترتقي إلى الوجوب: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل ... ) إرشاد لإيقاع الوتر، وهو طلب دلالته الندب.
إذاً: الحديثان متعادلان في الصحة والصراحة في القول، ولكن اختلفا في المضمون، فأحدهما: مضمونه كراهية إعادة الوتر، والثاني: مضمونه أن تجعل آخر صلاتك بالليل وتراً، وإذا كان لا وتران في ليلة لو أننا أعدنا الوتر نكون وقعنا في مكروه، ولو أننا اكتفينا بالوتر الأول وصلينا بعد ذلك ما تيسر دون أن نعيد الوتر تركنا مندوباً، وتجنب صفات المكروه أولى من اقتحام فعل المندوب، فيكون ترجيح: (لا وتران في ليلة) على (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) ، إذاً: من أوتر أولاً ثم قام بعد ذلك فليصل ما شاء ولا يعيد الوتر.
ويقول ابن عباس في من يصلي ركعة الشفع: (هذا جاء بالوتر ثلاث مرات وليس مرتين) ، أوتر بعد العشاء، ثم صلى ركعة واحدة وهي تعتبر وتراً، ثم صلى ما تيسر له وجعل آخر صلاته بالليل وتراً، كأنه أوتر ثلاث مرات، وهذا مقتضى قولهم: (تلاعب بالوتر) .
وعلى هذا يا إخوان يكون المتقرر عند الجمهور بأن اجتهاد ابن عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما عارضه اجتهاد غيرهما من الصحابة أمثالهما، وإذا كان اجتهاد صحابي تعارض مع اجتهاد صحابي آخر فإنهما يتعادلان فيتساقطان، كما هو النظام في البينات، إذا تعادلت البينتان تساقطتا، ويطلب بينة جديدة، وهنا: لم يبق عندنا إلا الترجيح في مضمون الأحاديث، أحدهما للنهي وأقل حالاته الكراهة، ولا ينبغي أن نرتكب مكروهاً، والثاني للطلب، وأعلى درجاته الندب، ولأن نقصر في مندوب خيراً من أن نرتكب مكروهاً، والله تعالى أعلم.
ثم يؤيد القول بعدم إعادة الوتر بأنه جاء عن أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث بخمس ثم يصلي ركعتين وهو جالس، بل في حديثها: كان يوتر بثلاث عشرة ركعة، فلما أسن وأخذه اللحم صار يوتر بسبع، ومعنى: (يصلي ركعتين وهو جالس) ، يعني: صلى بعد الوتر، ولم يعد الوتر بعد ذلك، ولم يلغ الوتر الذي تقدم.
إذاً: (لا وتران في ليلة) راجح على (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) ، وبالله تعالى التوفيق.