فتنة الممات تحتمل أمرين: إما فتنة ما يقع فيه الإنسان عند آخر حياته، وبما يُختم له به، ونسبت إلى الممات؛ لأنها قريبة في مماته، وما قارب الشيء أعطي حكمه، وفي الحديث: (منكم من يعمل بعمل أهل الجنة حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، ومنكم من يعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ؛ ولذا قالوا: الافتتان هنا عند آخر حياته، هل يكون آخر كلامه لا إله إلا الله؛ أم أنه يعجز عنها وينصرف ويشغل بأمور أخرى؟ فبعضهم يقول: وفتنة الممات تحتمل أن تكون عند لحظة النزع والاحتضار فهناك يفتن، وقد يأتيه الشيطان ويسول له أشياء كثيرة، وإما الفتنة بعد الموت فهي السؤال في القبر، لما ورد من الأحاديث الصحيحة في ذلك: (إذا وضع العبد في قبره أتاه ملكان فأجلساه) ، وجاء أن الملكين يسألانه: عن ربه ودينه ونبيه؛ فإذا كان مؤمناً صالحاً وفق للجواب، وقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم (حضر جنازة وبعد أن انتهوا من دفنها قال: سلوا الله لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل) ؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يحضر دفن الجنازة بعد أن يفرغوا من دفنه وتسوية التراب عليه أن يسألوا الله له الثبات في الجواب عن السؤال.
عمرو بن العاص أوصى عند موته فقال: (إذا أنتم دفنتموني، فأقيموا عند قبري بقدر ما تنحر الجزور، -يعني: تذبح وتسلخ وتقسم- فإني أستأنس بوجودكم عند سؤال الملكين) .
إذاً: عند السؤال الله أعلم بمن كان مخلصاً في دينه، صادقاً في إيمانه، فيلهمه الله الجواب الصحيح، ومن كان منافقاً -عياذاً بالله- أو كان أو كان، قال: هاه هاه لا أدري، هاه هاه سمعت الناس يقولون فقلت، وهنا الفتنة حقاً.
ويقول بعض العلماء: هل هذا السؤال وتلك الفتنة عامة في جميع البشر من آدم إلى الآن وفي جميع الأمم؟ قالوا: لا، هذا خاص بهذه الأمة فقط، وما كان أحد من الأمم يسأل عن هذه الأمور في قبره، ولماذا امتحنت هذه الأمة مع أنها خير الأمم؟ ولماذا فتنت في قبرها؟ قالوا: لأن الأمم السابقة كانت إما أن تستجيب لنبيها فتسلم، وإما أن تعاند فيعاجلها العذاب، وكم من أمة جاءها العذاب واستأصلها لأنهم كذّبوا، أما هذه الأمة فقد رفع الله عنها العذاب إلى يوم القيامة، فهم يمضون في طريقهم الصادق على صدقه، والكاذب على كذبه، والمنافق على نفاقه، ومن هنا تأتي الفتنة والسؤال والفرز الأول في القبر، نسأل الله السلامة والعافية.
في القبر من يمكن أن يساعد الإنسان هناك؟ لا أحد، وكما قيل: ثلاثة تصحب الميت، اثنان يرجعان، ويبقى واحد، ماله وأهله وعمله، ماله يذهب في فخر الناس ومجاملاتهم، وأهله يحزنون عليه، وعمله هو الذي يصحبه ويلازمه في قبره، فلا يملك أحد له شيء إلا الله.
كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من هذه الأربع في كل صلاة، وعلمنا ذلك؛ لئلا تغيب عن البال، دائماً وأبداً إذا استعذنا بالله من عذاب النار تجنبنا موجبه، إذا سألنا الله الاستعاذة من عذاب القبر أيضاً تجنب سببه، وقد جاءت بعض الأحاديث تؤكد على بعض أسباب عذاب القبر، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول) ؛ يعني: ليس بكبير لأنه يستطيع أن يتحرز منه، (بلى إنه كبير) ؛ لأن عليه تتوقف صحة الصلاة، والصلاة عماد الدين، (وأما الثاني فكان يمشي بالنميمة بين الناس) ، ليس بكبير، يستطيع أن يمسك لسانه ويكفه عن الغيبة، ولكنه كبير؛ لأن الغيبة تفسد ما بين كل اثنين أو جماعة أو الجميع، والحديث هنا صحيح الإسناد، وهناك زيادة فيها مباحث (فأخذ جريدة فشقها نصفين، فوضع على كل قبر شقاً، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) ، ويأتي بحث العلماء: هل لنا أن نفعل ذلك اقتداء به صلى الله عليه وسلم، الكثير يقولون: نعم، والبعض يقول: لا، لأننا لم نطلع كما اطلع صلى الله عليه وسلم على أهل القبر، ولا ندري أنه يعذب أو ينعم، لذا لا نضع احتياطاً، قالوا: وهل وضعنا نحن بأيدينا كوضع رسول الله؟ قالوا: لا، والمسألة تدور بين جواز فعل مثل ذلك عند القبور ومنعه، والذي عليه الاتفاق: أن ندعو له، وعند الدفن نسأل الله له التثبيت، وهذا ما يتعلق بفتنة الممات على إحدى المعنيين: إما أن يكون عند احتضاره مخافة سوء الخاتمة -عياذاً بالله- وإما ما يتعلق بسؤال القبر وهو فتنة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية.