قال رحمه الله تعالى: [وعنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة، يلعبون في المسجد.
الحديث) متفق عليه] .
يأتينا المؤلف بهذا الحديث، أو بهذه القصة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، حيث قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة -أي: رجال من الحبشة- يلعبون في المسجد) وهذا جزء من مشهد كبير طويل، وهو: أنه كان في يوم عيد، فأخذ الأحباش الموجودون بالمدينة، في تلك السنة، يلعبون بحرابهم لعبة القتال، في المسجد النبوي، فرغبت عائشة رضي الله تعالى عنها أن ترى هذه اللعبة؛ لأنها لم ترها من قبل.
وهنا يلبي لها النبي صلى الله عليه وسلم رغبتها، فيقف ويسترها من الناس، وتتمكن من الرؤية، فصارت تَرى ولا تُرى، وقد جاء في خبرها، أنه لما طال وقوفها، قال: أرضيتِ؟ فقالت: لا، أريد زيادة.
ويهمنا في سياق هذا الحديث السماح للأحباش باللعب بتلك الحركات الميدانية في المسجد النبوي، وهل يجوز لنا في الوقت الحاضر أن نفعل ذلك؟ يقولون: إذا كان مجرد لعب، أو لهو، أو مسابقة، أو مناضلة، -أي: مسابقة بالسهام- فلا، أما إذا كانت حركة فيها تدريب على الجهاد، ونوع من أنواع القتال، ومن يراه يستفيد، ومن يزاوله يحسن أكثر، فلا مانع، وفي يوم العيد؛ لأن يوم العيد في الإسلام فيه بهجة وسرور ولعب.
فقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل عليها والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ على فراشه، وعندها قينتان -جاريتان- تغنيان، وتضربان بالدف، فنهر عائشة وقال لها: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال له صلى الله عليه وسلم: (دعها -يا أبا بكر -؛ إنه يوم عيد) .
أي: أن يوم العيد يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتى المدينة ولهم أعياد كثيرة، لاسيما اليهود، فكل مناسبة عندهم يتخذونها عيداً، فلهم أيام متعددة، يتخذونها أعياداً إلى الآن، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أبدلكم -يخاطب المسلمين- يومي عيد خيراً من هذا: عيد الفطر، وعيد الأضحى) .
ويقول العلماء -من باب الالتماس-: جعل الله سبحانه وتعالى العيدين عقب عبادتين عظيمتين، وقد يستأنس الإنسان لهذا من سياق تشريع آيات الصيام، في قوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] ، ثم يقال: يسّر الله مع الفرضية والإلزام، فجاءت الرخصة لمن يشق عليه، ثم جاء تعليل التيسير بقوله: (لتكملوا العدة) ؛ لأن التشريع إذا كان شاقاً ملزماً وليس فيه ترخيص يعجز الناس عنه، فإذا كان التكليف شاقاً فمع المشقة رخصة للعاجز، فيمكن للمكلفين أن يكملوا العدة التي كلفوا بها؛ لأن مشقة التكليف يصحبها الترخيص والتخفيف.
ثم قال تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} يقول بعض العلماء: هو التكبير الذي يكون يوم العيد؛ لأنه جاء بعد إكمال العدة -أي: إكمال عدة رمضان- {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرون الله.
فقوله تعالى: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي: لأداء الواجب عليكم، وامتثال أمره، فكأنه قال: كلفتم بالصيام فأديتموه، وأكملتم العدة، فهلموا إلى تكبير الله، وإلى بهجة وفرحة العيد، بإكمال هذا التكليف الشاق العظيم.
وكذلك عيد الأضحى بعد الحج، والحج عبادة فيها مشقة، ففيها السفر والتنقل بين المشاعر، والسفر وحده -كما قيل-: لسفر قطعة من العذاب؛ لأن الإنسان يتحمل فيه تغير طبيعة حياته في نومه، وفي طعامه، وفي شرابه، فيختلف عليه نظام حياته في الإقامة، ويتحمل ذلك في سبيل أداء هذه العبادة العظيمة.
ومن هنا كان العيدان -عيد الفطر وعيد الأضحى- بهجة بعد أداء واجب فيه مشقة، فعيد الفطر بعد الصوم، وعيد الأضحى، بعد الحج، ومن هنا رخص النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء القوم أن يظهروا فرحتهم وبهجتهم بما يطيب لهم، وهي -كما يقال- لعبة القتال أو رقصة القتال، فيفعلونها تعبيراً عن شعورهم وفرحتهم في ذلك اليوم، فلا مانع في ذلك.
ويهمنا أنه سمح لهم أن يفعلوا ذلك في المسجد، أما بقية أنواع اللعب فلا يسمح بها، كما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه البيوت -أو المساجد- لم تبن لذلك، إنما هي لذكر الله وما والاه) ، فكما أن الشعر الذي يخدم الدعوة الإسلامية ويخدم المسلمين مما يوالي ذكر الله؛ لأنه تأييد لهم، فكذلك مثل هذه الحركة ففيها تدريب، وفيها تعليم لمن لم يرها من قبل، وفيها تشويق لمن لم يعرف ذلك، فتكون فيها خدمة دينية، فلا مانع منها، ولا يسمح بها في غير يوم العيد، فهذا ما يؤخذ من هذا الحديث.
وهنا ناحية اجتماعية أخرى، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ستر عائشة حتى لا يراها الناس، وهي رأت الناس ولا يمكنها مشاهدة ذلك إلا بأن تراهم، فهناك فرق بين أن يرى الرجل المرأة وأن ترى المرأة الرجل، ولكن -كما يقولون- الأفضل للطرفين ألا يرى أحدهما الآخر، فهذا هو الأسلم والأفضل، كما جاء في قصة ابن أم مكتوم حيث دخل على بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهن: (احتجبن.
فقلن له: إنه أعمى لا يرانا.
قال: أوعمياوان أنتما؟) فهو لن يراهما لأنه أعمى، وهما سيريانه، وهذا من باب الرفعة أو السمو، أو علو درجات أمهات المؤمنين، فيحملن على أكمل الصور وأكمل الحالات.
والآن -بطبيعة الحال وضرورة الحياة- المرأة تخرج إلى السوق، ولها أن تخرج إلى المسجد، ففي الحديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، فستخرج من بيتها إلى المسجد، فهل تخرج مغمضة عينها أو ترى الطريق؟! إنها سترى الطريق، والطريق فيها الرجال والنساء، فسترى المار في الطريق، فهذا من الضرورات، ولا يمكن أن نمنعها من رؤية الرجال؛ لأن هذا معناه منعها من الحركة خارج بيتها، مع أنه يجوز لها أن تخرج إلى قضاء حاجتها، حتى المعتدة لها أن تذهب في النهار لتقضي حاجتها وترجع، ويكون مبيتها في بيتها.
فهذه ضرورة، ولا يمكن القضاء عليها، وليس هناك بديل عنها.