قال رحمه الله تعالى: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أصيب سعد، يوم الخندق، فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب) متفق عليه] .
يسوق لنا المؤلف رحمه الله تعالى قضية سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، وسعد له تاريخ عريض في الإسلام، وكان سيد بني عبد الأشهل، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير مع أصحابه بعد بيعة العقبة، ليعلمهم الإسلام، كان يتتبع الأنصار على مياههم، فجاء إلى ديار بني الأشهل يدعو الناس، فكان سعد جالساً وراء هذا العمل، فأرسل ابن أخته، وقال: اذهب إلى فلان ومن معه، وقل له: فليكف ذلك عنا، ولا يفسد سفهاءنا.
فلما جاء إلى مصعب وصاحبه هددهما وشتمهما، وقال: قوما عنا.
فقال له مصعب رضي الله تعالى عنه: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أعرض عليك الذي جئت به، فإن رضيته وقبلته فبها، وإن لم ترضه، ولم تقبله رحلنا عنك، قال: أنصفت، وركز حربته وجلس.
فقرأ عليه مصعب شيئاً من القرآن؛ فاستحسنه، فقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قال: يغتسل -أو يتوضأ- ويصلي ركعتين، ويشهد شهادة الحق ففعل، فرجع إلى سعد ومن عنده، فقال من كان عند سعد: والله لقد رجع إليك قريبك بوجه غير الذي ذهب به عنا.
فقال له سعد: ماذا فعلت؟ قال: أمرتهما بما أمرتني به، وعند عودته من عند مصعب قال له: إن ورائي رجلاً لو اتبعك سيتبعك أهل الحي هذا جميعاً.
فكأن سعداً لم يقنع بكلام هذا الرجل، وذهب بنفسه، فلما وقف عليهما أتكاً، ارتكز على حربته، وكلمه بمثل ما كلمه الأول، فأجابه مصعب كذلك بمثل ما أجاب الأول، فقال: أنصفت والله.
فقرأ عليه ما تيسر من القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ فأخبره، وصلى الركعتين، وشهد شهادة الحق، ورجع إلى قومه، فقال: يا بني عبد الأشهل! كيف ترونني فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وميمون الطليعة، ومبارك النجيبة،.
إلخ، فقال: والله إن كلامكم رجالاً ونساءً عليّ حرام ما لم تسلموا.
فبات الحي كله مسلماً.
وهكذا كان له رضي الله تعالى عنه شأن عظيم في غزوة بدر، وفي غزوة الأحزاب أصيب بسهم في أكحله، فعز على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعد عنه، وأراد أن يكون بجواره من قريب، فضربت له خيمة في المسجد، يُمرّض فيها، وليعوده النبي صلى الله عليه وسلم من قريب، أي: من حجرته إلى المسجد، فرقع جرحه واستراح، فجاءت قضية بني قريظة الذين نقضوا العهد في غزوة الأحزاب، وشدة الأمر على المسلمين حتى بلغت القلوب الحناجر، وفي ذلك الموقف الرهيب الصعب قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] ، فمن فوقهم اليهود، ومن أسفل منهم الأحزاب قريش، وغطفان، ومن معهم، وأصبح المسلمون -كما يقال- بين فكي الأسد.
فـ سعد رضي الله تعالى عنه لما أصيب قال: اللهم إن كنت أبقيت حرباً لقريش فأبقني إليها، وإن لم تكن أبقيت حرباً لقريش فاجعلها شهادة، ثم قال: اللهم أقر عيني في بني قريظة، فلما ذهب صلى الله عليه وسلم وحاصرهم، كان من قصتهم أن طلبوا أن ينزلوا على حكم سعد؛ لأنهم كانوا حلفاءه قبل الإسلام، وظنوا أنه سيرفق بهم، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم -وهو هناك يباشر الحصار-، وجيء بـ سعد على حمار، فلما وصل، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: قوموا لسيدكم فأنزلوه، فلما أنزلوه قال صلى الله عليه وسلم: لقد نزل اليهود على حكمك يا سعد! فوقف وأشار بيده وقال: أحكمي نافذ على كل من كان هنا؟ قال الجميع: نعم.
وأشار إلى اليهود: تنزلون على حكمي؟ قالوا: نعم.
وأشار إلى الجهة الأخرى بتأدب وقال: ومن هنا؟ قالوا: نعم، فقال: يا رسول الله! أحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم -أي: كل من كان قادراً على حمل السلاح- وتسبى نساؤهم وذراريهم، فأخذ اليهود يصيحون، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع طباق) يعني: من فوق السماوات السبع، ونفذ ذلك، فقُتلت المقاتلة، وسُبي النساء والصبيان.
والذي يهمنا أنه في هذه الوقعة -ومعها غزوة الأحزاب- كان لـ سعد رضي الله تعالى عنه موقف نبيل، وكانت حياته كلها لله سبحانه وتعالى، ونصرةً لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلما أصيب عزّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُترك ويُمرَّض في بيته في بني عبد الأشهل، وهم في العوالي، فنصب له خيمة في المسجد وصار يعوده من قريب، فلما انتهى من التحكيم المذكور نقض عليه جرحه في الليل، ومات في الصباح، وأقر الله عينه فيما أراد، وكما يقولون: لما أصبحوا وجدوا دماً وماءً يسيل من تحت الخيمة، فنظروا فإذا بجرحه قد نقض عليه ونزف ومات.
وهنا يقول العلماء: هل ذلك الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم خاص بـ سعد، ومن أجل أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعوده من قريب، أو أننا إذا احتجنا، وحدث -لا قدر الله- مرض، وضاقت المستشفيات، وعجزت الدور المخصصة لذلك فلنا أن نستعمل المساجد مأوى للمرضى؟ الجواب: نعم، مع الحفاظ على أرض المسجد من أن يأتيها شيء مما يكون من المرضى، وإذا كان ولابد فليكن في مكان في جانب من المسجد، ثم بعد ذلك يطهر ما وقع في أرض المسجد.
ويقول المتأخرون: إن من المهام التي أداها المسجد -أو على الأخص المسجد النبوي- مهمة المستشفى العسكري، أي: تمريض من أصيب في القتال داخل المسجد، ويقصدون به قصة سعد رضي الله تعالى عنه، والمؤلف يسوق لنا قصة سعد في باب المساجد ليبين لنا أنه عند الحاجة وعند الضرورة، لا مانع أن يمرض المرضى في المساجد؛ لأنها خدمة عامة، ومصلحة للجميع، فلا مانع من ذلك.
والله تعالى أعلم.