قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، أو لا ترجع إليهم) ، رواه مسلم] .
يذكر المصنف رحمه الله تعالى في (باب الحث على الخشوع في الصلاة) هذا الحديث، وفيه النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة.
قوله (لينتهين أقوام) (ينتهين) ، أي: يمتنعن.
(أقوام) : جمع قوم، وهو خاص بجماعة الرجال وضعاً، ويدخل فيه النسوة تبعاً، ويستشهدون لذلك بقول الشاعر: أقوم آل حصن أم نساء فجعل النساء قسيمات للقوم، وقوله: (لينتهين أقوم) يشمل الأفراد كذلك، فإذا كان النهي للجماعة فهو يشمل أفراد الجماعة واحداً واحداً، كما تقول: لينتهين بنو فلان عن أذية فلان فـ (بنو فلان) تشمل مجموعهم، وأفرادهم ضمناً.
قوله: (لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم إلى السماء) ، جاء هنا بلفظ: (في الصلاة) ، والحديث جاء تارة مطلقاً وفيه: (عن رفعهم أبصارهم إلى السماء) ، وجاء هنا مقيداً بكونه في الصلاة، وهذه الرواية: (في الصلاة) هي المناسبة لإيراد هذا الحديث في باب الحث على الخشوع في الصلاة.
والنظر بالبصر إلى السماء يكون فيه -غالباً- الانصراف عن معنى الصلاة؛ لأنه لا يخرج عن أحد أمرين: فإما أن يكون عبثاً فهو عين المقصود في النهي عنه، وإما أن يكون للتأمل، كمن كان في الليل يتأمل زينة السماء بهذه الكواكب، ويفكر في قدرة الله وفي مصنوعاته، فهذا باب والصلاة باب آخر، فيكون قد خرج عن مناجاة ربه إلى موضوع آخر وهو العظة والاعتبار بقدرة ربه، وفرق بين المناجي -وهو مستحضر لمن يناجيه رغبةً ورهبة- وبين من يفكر في مصنوعات الله وفي قدرته سبحانه وتعالى.
وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] ، فهذا ذكر مستقل، ثم قال في التفكر: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:191] ، فجعله قسيماً للذكر.
فرفع البصر إلى السماء يتنافى مع الخشوع في الصلاة، ولو كان للتدبر في الآيات والقدرة الكائنة في هذا الخلق العظيم، وقالوا: من أدب الصلاة ألا يتعدى بصر المصلي سترته التي بين يديه؛ لأن ذلك أدعى لاجتماع حسه وحواسه لتتجاوب مع لسانه ومع قلبه فيما يتلو، وفيما يناجي به ربه سبحانه وتعالى.
وفي رفع البصر إلى السماء جاء هذا الوعيد الشديد: (أو لا ترجع إليهم) ، يعني تخطف أبصارهم، وهذا وعيد شديد بعقوبة عظيمة على الإنسان، ومن هنا قال من قال: إن نظر المصلي إلى السماء في الصلاة يبطلها؛ لأنه عمل خارج عن موضعها، وجاء الوعيد الشديد في حقه.
فلا يجوز لإنسان أن يفعل ذلك، وبعض العلماء حمل ذلك على العموم في الصلاة وفي غير الصلاة، وقالوا: فعله في الصلاة يتنافى مع الخشوع، وفي غير الصلاة، لا يفعله حياءً من الله، وكما أن المصلي لا يبصق أمامه حياء من الله وتعظيماً لوجه الله فلذلك هنا.
ولكن قوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:191] يدل على أن ذلك غير ممنوع؛ إذ لا يكون التفكر إلا بالرؤية التي يعملها الإنسان في ذهنه لنقل الصورة التي يراها بعينيه، والقرآن الكريم يسجل لنا قوله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] ، فكان صلى الله عليه وسلم يتطلع وينتظر أن الله سبحانه وتعالى يوليه إلى استقباله الكعبة، ليستقل عن اليهود، كما قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] ، وكانوا يقولون: عجباً له يعيب ديننا ويستقبل قبلتنا! فكان يتطلع صلى الله عليه وسلم إلى الاستقلال الكلي.
ولهذا جاءت النصوص في أن المسلم لا يحق له التشبه باليهود والنصارى في عباداتهم ومعاملاتهم، أي: الخاصة بهم، بخلاف التعامل المشترك كالبيع والشراء وتبادل المنافع، فهذا أمر تقتضيه الحياة، وليس من التشبه المحرم، ومما يدل على جواز التعامل مع اليهود والنصارى أنه صلى الله عليه وسلم خرج من الدنيا ودرعه مرهونة عند يهودي، في آصع من طعام، فهل كان المهاجرون والأنصار عاجزين عن أن يقدموا لرسول الله آصعاً من طعام؟ لا والله، لقد حكّموه في أموالهم وفي أنفسهم، حتى في حقوقهم الأدبية، ولما جاء إلى قباء قال: (مالي لا أرى فلان بن فلان؟ قالوا: بينه وبين القوم ثأر لا يستطيع أن يأتي) ، وبعد فترة في منتصف الليل إذا به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا أبا فلان! كيف جئت وبينك وبين القوم كذا وكذا؟ قال: يا رسول الله! ما كان لي أن أسمع بمجيئك وأقعد عنك، فقال لبني عوف: أجيروه) ، فإذا أجاروه أصبح آمناً يأتي في كل وقت، (قالوا: أجره أنت يا رسول الله!) ، فهذه حقوقهم الخاصة يحكمونه فيها، ويتنازلون عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل -يا ترى- كانوا عاجزين عن أن يقدموا آصعاً من طعامٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدون رهن؟ ولكن أعتقد -والله تعالى أعلم- أنه لما جاء النهي، وجاء التحذير من اليهود، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) فهم من ذلك المقاطعة الكلية، حتى في الأمور الدنيوية، فتأتي هذه الحادثة لتدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعامل معهم في البيع والشراء، وهكذا الدنيا اليوم، فيها أسواق عالمية، أوروبية وأمريكية، وأسواق الشرق الأوسط، والشرق الأقصى، والشرق الأدنى، وأسواق عالمية تتبادل فيها السلع بين الدول، فهذه أمور تعامل أو معاملات لا غبار عليها، وتقتضيها الحياة، كما قيل: الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم فالتعاون من هذا القبيل لا شيء فيه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقلب وجهه في السماء ابتغاء تحويله إلى قبلة مستقلة للمسلمين، وكان تحوله إلى الكعبة بعد قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] .
فالنهي هنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام) جاء مطلقاً بلا قيد، وجاء مقيداً بالصلاة، والقاعدة عند الأصوليين أنه إذا جاء حديث في قضية مطلقاً، وجاء حديث في عين القضية مقيداً حُمل المطلق على المقيد.
كما يمثّل الأصوليون بالكفارة في القتل والكفارة في الظهار، فإن عتق الرقبة في الطهارة جاء غير مقيد بالإيمان، وجاء هناك مقيداً بالإيمان، فحُمل عتق الرقبة في جميع الكفارات على قيد الإيمان، ولا تجزئ رقبة في كفارة إلا بقيد الإيمان، وهنا كذلك، ففي هذا الحديث: (في الصلاة) ، فيحمل عموم النهي بغير القيد على ما جاء في هذا القيد، ومن رفع بصره إلى السماء في غير الصلاة لا يكون داخلاً في هذا النهي، والله تعالى أعلم.